بعد مرور عام وبضعة أشهر من اندلاع الثورة المصرية أنجز الشعب المصري عدداً من الاستحقاقات السياسية، ولعلَّ إسقاط نظام حسني مبارك من أهمها، إذا ما وضعنا الإبقاء على وحدة الجيش والأجهزة الأمنية ومنع حصول حرب أهلية على رأس إيجابيات تلك الثورة.
ولأنه ما لم تكن الثورة حركة منظمة محصَّنة برؤية فكرية وبمنهج جديد للنظام الذي ثارت ضده وأسقطته، فإن ما ستحصل عليه من نتائج لن تتجاوز إسقاط القديم من دون وجود أسس واضحة للنظام الجديد، مما سيضع النتائج الجديدة بمثابة مرحلة أولى إذا لم تولِّد مراحل أخرى أكثر تقدماً فإن الثورة ستأكل نفسها، وستقع الجماهير التي قدمت لأجلها أغلى التضحيات فريسة لحالة إحباط جديدة.
فإن ما جرى في مصر كانت ردة فعل عاصفة ضد نظام استباح حقوق المصريين بالعيش الكريم من جهة، واستباح شعورهم القومي عندما كبَّل مصر باتفاقيات إذعان والتحاق بعجلة المشروع الرأسمالي والصهيوني من جهة أخرى. لذا، وبعد أن أنجز المصريون استحقاق إسقاط النظام، كما قاموا بإنجاز خطوات دستورية في انتخاب مجلس جديد ورئيس جديد، من المفترض أن يشكل البديل أنموذجاً لنظام جديد يقضي على نهج التخلي عن مصلحة الشعب من جهة، وإلى عودة مصر إلى الحضن القومي من جهة أخرى. ولكن إذا لم ينجز النظام الجديد تلك الاستحقاقات ويعالجها ويضع الحلول الجذرية لها، يعني كأن الثورة المصرية كانت مجرد انقلاب قادته الجماهير الشعبية ووضعته في عهدة من لا يحسن التغيير ولا يفقه أصوله. فالثورة ليصح أن نطلق عليها ثورة يجب أن تستبدل نهجاً بالحكم بنهج آخر، لا أن تستبدل أشخاصاً بأشخاص، أو حركات بحركات. ولذا قيل: قل لي ما هو نهجك بالحكم ووسائلك لتطبيق هذا النهج أقل لك إذا كنت ثورياً أم أنك تزعم الثورية.
وإذا قمنا باستقراء نتائج الثورة المصرية، وقبل أن يأخذ من وصل إلى الحكم وقته للتطبيق، يمكننا أن نغامر بقراءة مستقبل مصر من خلال الأشخاص الذين وصلوا إلى مواقع السلطة من خلال قراءتنا لمنهج تفكيرهم وليس لبرامجهم لأنهم يفتقدون لتلك البرامج.
ما هي الدلالات الجديدة لخطوات اختيار البديل لنظام حسني مبارك؟
لم تفاجئنا ظاهرتان، وهما:
-قوة نظام مبارك وفلول هذا النظام، لأنه احتضن النخب الاقتصادية والعسكرية والأمنية والثقافية الليبرالية التي ارتبطت مصالحها بمصالحه.
-قوة التيارات الإسلامية التي أخذت كل فرص نشاطها وحركتها بين الجماهير، لأن نظام السادات، السلف الأساسي لنظام مبارك، كان قد أفسح لها حرية الحركة والتعبير والتنظيم.
جمع بين هاتين القوتين عامل العداء للقوميين والفكر القومي:
-أما الأول، الممثل لنظام حسني مبارك: فلأن التيارات القومية تكشف جرائم ارتباطه بالتحالف الأمبريالي – الصهيوني، وبالتالي ترفض رفضاً مطلقاً كل اتفاقية مع العدو الصهيوني لأنها ستكون تنازلاً عن الحقوق العربية لمصلحة التحالف المذكور. ولهذا رفضت التيارات القومية اتفاقية كامب ديفيد. وهذا الرفض استشرفه أنور السادات قبل الإقدام على جريمته بتوقيع تلك الاتفاقية، ولكي لا تعيق الحركات القومية خطوته، أفرج عن الإسلاميين من السجون المصرية منذ انتخب رئيساً لمصر ,افسح لهم المجال لحرية النشاط والحركة، لأنه يعرف تمام المعرفة، بناء على نصائح المخابرات المركزية الأميركية، أنه لن ينافس التيارات القومية ويقف في مواجهتها إلاَّ التيارات الإسلامية وحركاتها. وكان القصد من قراره إذن وضع الإسلاميين في مواجهة القوميين.
-وأما الثاني، أي التيارات الإسلامية، فلأنها تعتنق إيديولوجيا عابرة للقوميات، أي أنها تعتبر أن الأفكار القومية ما وُجِدت إلاَّ لمحاربة الإسلام، فهي ترفض أي إيديولوجيا تنزل تحت سقف أهدافها الأممية في بناء دولة دينية إسلامية. وهي بدلاً من أن تتكامل أهدافها مع القوميين في بناء وحدة عربية لمواجهة المخططات الخارجية، كون العروبة كانت مصدراً للدعوة الإسلامية، فقد وقفت على حد التناقض الحاد معها.
ولكن ما فوجئنا به، خاصة في انتخابات الجولة الأولى للرئاسة المصرية كان حجم الشعور القومي الكبير عند شريحة كبرى من الشعب المصري. وإننا بعد أن كدنا نحسب أن تشويه هوية الشعور القومي عند المصريين قد بلغ مداه بعد وفاة عبد الناصر، فإذا بعدد الأصوات التي حاز عليها حمدين صباحي، مرشح التيارات الناصرية، قد فاقت نسبته ربع عدد الذين أدلوا بأصواتهم. والمفاجأة كانت كذلك على الرغم من إمكانيات التيارات القومية الضعيفة إذا ما قيس حجمها بحجم الإمكانيات التي يمتلكها التياران التقليديان: تيار النظام المنهار، والتيارات الإسلامية.
واستناداً إلى هذا، هل نستيطع استشراف آفاق المرحلة القادمة؟
بعد أن رست نتائج الاستحقاقات الدستورية لمصلحة التيارات الإسلامية أولاً، ولتيارات نظام مبارك ثانياً، هذا إذا ما اعتبرنا أن تأثير المؤسسة العسكرية سيضع ثقله لمصلحة إعادة تجميد الوضع عند حدود ثوابت النظام المنهار، وهي: رفض المس باتفاقية كامب ديفيد، وإعادة إحياء قوى الفساد والاقتصاد الحر المنفلت، نرى بأن لا تغييراً حقيقياً قد حصل في مصر بعد الثورة، بل أعيد إنتاج النظام بأسماء مختلفة، وقوى مختلفة بالإسم وليس ببرامج العمل والتغيير.
ولكن، هل نسطيع الحكم بأن حركة الشعب في مصر لم تنجز شيئاً من شعاراتها التي ارتفعت منذ أكثر من عام؟
إذا كانت نتائج الانتخابات المصرية قد أكَّدت إعادة تقسيم الحصص بين النظام السابق وحليفه من تيارات الإسلام السياسي، بفارق حصول تيارات الإسلام السياسي على مقاعد في الحكم أكثر من حليفه، وهذا لا يشير إلى تغيير في المنهج، فإن ما ننظر إليه في المستقبل هو أن تستفيد التيارات القومية من فرصة الهزَّة العنيفة التي حصلت في بنيان النظام السابق من أجل البناء عليها، وإعادة ترتيب أوضاعها على ضوء المتغيرات في مسألتين مهمتين، وهما: الحصول على حق تشكيل الأحزاب السياسية وحرية القول والتظاهر أولاً، وثانياً الانطلاق من قاعدة شعبية واسعة، وهي عدد الأصوات التي صبَّت لمصلحة حمدين صباحي.
إن المسألة الأولى تشكل فرصة ثمينة للتيارات القومية لتعمل بحرية نسبية بعيدة عن الخوف من تعسف الأجهزة الأمنية وتضييق الخناق على حركتها، وتستفيد من حقها في تأسيس الأحزاب. ولأن التيارات القومية ليست موحَّدة الصفوف نعتبر أن من أولى مهماتها إعادة تنظيم عقد جبهوي بينها على قاعدة التعددية التنظيمية داخل الوحدة الفكرية والثقافية ووحدة الشعور القومي ووحدة المصير في مواجهة أي احتمال بإعادة تأسيس بناء أجهزة بوليسية رسمية جديدة بأسماء جديدة وهيكليات جديدة.
وأما المسألة الثانية فهو الاستفادة من الحصة النظيفة في الأصوات التي نالها المرشح القومي حمدين صباحي، وهي بالتأكيد كانت تصويتاً للتيارات القومية، وهي الأصوات التي صبَّت في صناديق الاقتراع لمصلحة هذه التيارات على الرغم من الإغراءات المتعددة الأشكال والألوان التي بذلتها قوى النظام السابق وقوى الإسلام السياسي.
في أفق المتغيرات التي فرضتها ثورة 25 يناير المصرية، يبدو الأمل مشرقاً لقيام صحوة قومية، من غير المقبول أن لا تلتقطها التيارات الوطنية والقومية والعلمانية. ومن المتاح لهذه الفرصة أن تنجح، لأنها أولاً قادرة على وضع برامج للتغيير مستفيدة من إيجابيات التجارب القومية السابقة في الحكم، وثانياً لأننا لن نراهن على أن التيارات التي ستحكم قادرة على إنتاج رؤية استراتيجية في التغيير.
فإلى ثورة قومية وطنية داخل الثورة المصرية تشكل استئنافاً لنضالات الشعب المصري العريق في احتضان الفكر القومي منذ ثورة 23 يوليو، بكل ثوابته التي أرست تلك الثورة أسسها وقواعد انطلاقتها، كان فيها المصريون أحد أهم الحوامل للقومية العربية في شعاراتها الثلاثية الأبعاد: الوحدة والحرية والاشتراكية.