وتبقى فلسطين في البال، ولا فلسطين من دون أرض وكرامة، بل ستظل فلسطين البداية، ولن تكون النهاية إلاَّ عندما يتم تحريرها من عصر الاحتلال والاغتصاب.
فلسطين ستبقى عربية، ولن نرضى بأقل من أن تكون عربية واحدة موحدة من البحر إلى النهر. لكن فلسطين اليوم تحولت إلى أكثر من قضية، ومن ساحة.
إننا عندما نجتمع من أجل فلسطين، فإنما نجتمع من موقع الشريك، بل من موقع أبناء القضية الواحدة. لهذا دعونا نتكلم من موقع الحريص وموقع الذي يدافع عن نفسه.
لقد شتمنا الاستعمار والصهيونية منذ أكثر من ستين عاماً، فلم ينزعجوا، ولم يتحرر شبر منها. وعندما رشقناهم برصاصة واحدة، كبحنا سرعة مسار حلمهم التلمودي، وثار الخوف في نفوسهم وانهالت مؤامرتهم لإطفاء شعلة البندقية. فما بال بندقية فلسطين اليوم؟ أليست هي البندقية التي أشعلت فينا منذ عقود نار النضال وألهبتها؟ أليست هي البندقية الأم التي وحَّدت حولها كل العرب من المحيط إلى الخليج؟
دعونا نضع أنفسنا تحت مشرط المساءلة ولو لمرة واحدة. دعونا نتحمل مسؤوليتنا بكل شجاعة، فنقول:
ليس من عجائب الدنيا السبع أن تتآمر دول الرأسمال الغربي، وفي الطليعة منها أميركا، فهم من أعطى وعد بلفور وعليهم أن يفوا به.
كما أنه ليس من عجائبها أن يعيث العدو الصهيوني تقسيماً وتجريماً وتقتيلاً بالفلسطينيين وبفلسطين، فحلم الصهيونية لن يتحقق إلاَّ بما نصت عليه التوراة: إذا دخلتم أرض كنعان فشقوا بطون الحوامل…
لكن من عجائب الدنيا وغرائبها أن تتخلى الأنظمة العربية عن فلسطين، وعن عروبة فلسطين، أي أن يتنكروا لجزء من الوطن العربي. جزء يقع في القلب منه.
ومن عجائبها أيضاً أن يقتتل أبناء فلسطين ويقتسموا ما بقي من أرض يعمل العدو الصهيوني على ابتلاعه، فهم يفتتون ما هو مفتت على قلته.
وهل من الواقعي أيضاً أن تبيع الأنظمة الإسلامية مقدساتها؟
فإذا كانت أرض فلسطين للعرب، فإن المسجد الأقصى لكل المسلمين.
وإذا كان الأقصى للمسلمين، ففي القدس للمسيحيين مقدسات.
عندما اعتبرنا أن فلسطين شأن فلسطيني وليس شأناً عربياً، كدنا نضيِّع العراق.
وعندما نعتبر أن العراق شأن عراقي وليس شأناً عربياً، فنحن نضيِّع لبنان.
إن قضايا العرب حزمة واحدة لا يمكن تجزئتها، ولا يجوز تجزئتها. وعندما نظرنا إليها من زواياها القطرية، أصبحنا أعجز من أن نجد لها الحلول. وأما الأخطر من كل هذا، فنحن عندما وقعنا في متاهات العجز، دخل الأوصياء من كل حدب وصوب للنيابة عنا، وأعلنوا وصايتهم على قضايانا.
وعندما غسلنا أيدينا من قضية فلسطين، غسل الآخرون أيديهم بدماء المذابح التي ألحقتها ليس بفلسطينيي غزة وحدهم بل لاحقوهم في العراق أيضاً وذبحوهم. غسلنا أيدينا من قضية فلسطين، وغسلوا أيديهم بدمائنا وراحوا يبنون (إسرائيل) ثانية في شمال العراق. أما السبب فيعود إلى أننا لم ندافع عن قضية فلسطين فاحتلوا العراق، وإذا لم نحرر العراق، فستبقى أية أرض عربية عرضة للاحتلال.
ولكل هذا، وعندما لم ندافع عن فلسطين والعراق، عمد الصهاينة بوعد بلفور أميركي إلى تأسيس (إسرائيل) ثانية في شماله.
لقد ألهانا العدو عندما اختلق الخلاف بيننا، أو قل التهينا نحن ببعضنا البعض، والعدو يتفرَّج، ويأخذ استراحة يلتقط بها أنفاسه. نحن نقتتل حول جنس الملائكة وهو يتوسع، ويبني في القدس وغير القدس ليوسع كيانه. ويدمر في لبنان وفلسطين والعراق ليمنعنا من بناء دولتنا.
لقد صوَّر لنا أن قضية العراق تنحصر بإسقاط ديكتاتورية لنشر ديموقراطية، كما يزعم، وانطلت علينا الخديعة. فإذا به يصدِّر إلينا الصهيونية إلى العراق ليبنوا دولة ثانية تحت علم حقوق الأكراد. ويطبق مشروع الشرق الأوسط الجديد تحت علم الفيدراليات في جنوبه ووسطه. يعمل على تنفيذ ذلك متذرعاً باستعادة حقوق الطوائف المغبونة.
وتصورنا أيضاً أن قضية فلسطين تنحصر باستبدال هذا الفصيل بذاك، وانطلت علينا الخديعة.
فاقتتل العراقيون تحت ظلال هذه الخديعة، وهكذا فعل الفلسطينيون.
علينا أن نحاسب أنفسنا أولاً، ونخاطب العرب المجتمعين اليوم في ليبيا، ونناشدهم للعودة إلى رشدهم وضمائرهم، ويبدأون في ردم الخلافات فيما بينهم. فبخلافاتهم تكاثر الأوصياء على قضايا أمتنا.
عليهم أن يعودوا إلى ضمائرهم وإعادة قضايا الأمة العربية إلى العرب، فأبناء العروبة مهما جاروا على بعضهم فسيبقوا أرحم بنا من كل أشكال الوصاية.
كما علينا أن نحاسب أنفسنا نحن أبناء الشعب العربي، أبناء القضية الواحدة، ونعلن أن قضايا القطر، وقضايا الأمة رزمة واحدة موحدة، من العراق إلى فلسطين إلى لبنان إلى أقاصي المغرب العربي، نعلنها صرخة واحدة أنه وإن تخلت الأنظمة عن قضايانا فإن بندقية المقاومة الشعبية تبقى السلاح الأقوى والأشد مضاءً من ترسانة الاستعمار والصهيونية.
إننا وإن تخلت الأنظمة عن قضايا الأمة فلنعلنها وحدة للمقاومين، كمثل ما كانت عليه معركة الكرامة بالأمس، وكل معارك المقاومة العربية في هذا اليوم. فلنعلنها وحدة للمقاومة ثأراً ليوم الأرض العربية، وثأراً للكرامة العربية، وعلى امتداد الأرض العربية.