هل ينتخب المصريون ديكتاتورًا؟

القاهرة ـ محمود بكري

رئيس ما بعد الثورة .. هو القاطرة التي ينتظرها المصريون، لترفع عن كواهلهم عامًا ونصف العام من التخبط، الذي بات السمة السائدة لعوامل النمو السياسي المتجدد في محراب الحياة المصرية هذه الأيام.

فحين أطلق المصريون ثورتهم في الخامس والعشرين من يناير، من العام الفائت، لم يدر بخلدهم، أن ما غرسته دماء الشهداء، وآلام المصابين، سوف يفضي إلي دوامات من بحور السياسة، التي أغرقت طوائف عدة، وقفزت بأخري فوق مجري النهر، الذي يقف شاهدًا علي تحولات كبري تشهدها مصر في هذه اللحظات الفارقة.

بعد نحو الثلاثة أسابيع من الآن، وعلي مدي يومي 23و24مايو »آيار« الجاري ينتخب المصريون رئيسهم بإرادة شعبية حرة، للمرة الأولي في التاريخ المصري الحديث، حيث يتأهب نحو 52 مليونًا من الناخبين لاختيار واحد من ثلاثة عشر مرشحًا قطعوا أشواط السباق حتي مرحلة ما قبل الانتخاب، ولم تطلهم مقصلة اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية، والتي أطاحت قراراتها بعشرة من المرشحين علي المقعد الرئاسي، بمن فيهم الثلاثة الأشهر، والأكثر حظًا للفوز بالمنصب قبل طردهم من حلبة السباق.

لقد جاء استبعاد اللواء عمر سليمان نائب حسني مبارك السابق لنقص في التوكيلات المقدمة، ورجل الإخوان المسلمين القوي خيرت الشاطر، لعدم حصوله علي رد اعتبار في قضايا سياسية ضده من عهد النظام السابق، والشيخ حازم أبو إسماعيل لثبوت جنسية والدته الأمريكية، جاءت عملية الاستبعاد لتطفيء تلابيب من النار، كادت تلهب الأجواء السياسية الآخذة في التوتر في  مصر، وبدا الأمر، وكأن هناك من رسم سيناريو متقن، بحرفية عالية، بحيث تطفيء عملية الاستبعاد أجواء الاحتقان التي سادت، وتعاظمت، وأنذرت بلهيب ثورة ثانية، راحت تتجدد في مليونية »حماية الثورة وتقرير المصير« في العشرين من ابريل »نيسان« المنصرم.

فبقدر ما استنفر ترشح اللواء عمر سليمان القوي الإسلامية، والليبرالية، والعناصر الشبابية، والثورية، ودفعهم للمرة الأولي إلي التوحد علي أرضية مشتركة منذ انتهاء الثورة، بقدر ما كان ترشحه حافزًا للبرلمان المصري، لتفصيل قانون خاص بالعزل السياسي، لاستبعاد كل من عمل في نظام مبارك، إبان السنوات العشر السابقة علي سقوطه.

وإذا كان استبعاد سليمان واقرار  قانون العزل، قضي علي طموحات كل من عملوا في أركان النظام السابق خلال السنوات العشر الأخيرة، ممن أطلق عليهم »الفلول« فإن استبعاد نائب مرشد الإخوان »خيرت الشاطر« لم يحل المعضلة مع القوي الليبرالية، والثورية، والتي ظلت علي خطي تراشق طيلة فترة ما بعد الثورة، جراء تباين واضح في التعامل مع العديد من القضايا محل الخلاف.

فالجماعة التي دفعت بمرشح احتياطي للشاطر، هو د.محمد مرسي رئيس حزب الحرية والعدالة، الجناح السياسي للإخوان المسلمين، رفضت مطلب القوي السياسية بسحب مرشحها الرئاسي، والاكتفاء بأغلبيتها البرلمانية، حرصًا علي عدم هيمنة أحد التيارات علي المناصب القيادية في البلاد، ونزولاً علي تعهدها السابق في العاشر من فبراير 2011 والتاسع والعشرين من ابريل من العام نفسه بعدم مزاحمة القوي السياسية الأخري علي المنصب الرئاسي.

هذا الرفض من جماعة الإخوان، وتصميمها علي خوض الانتخابات الرئاسية بمرشح عنها، تقاطع مع جملة السياسات، والمواقف، درجت الجماعة علي انتهاجها، ما كان له أبلغ الأثر علي جملة من التحولات في الشارع السياسي، والشعبي المصري، راحت تفرز مزيدًا من التخبط علي الصعيد العام، وتحدث فراغًا كبيرًا في جملة المؤيدين للجماعة في الشارع المصري.

هذا الفراغ نجم عن سلسلة من المواقف التي أربكت حسابات جماعة الإخوان المسلمين، فلقد كانت الجماعة الداعم الأول والرئيس لبنود الإعلان الدستوري، والذي جري الاستفتاء عليه في التاسع عشر من مارس من العام 2011، يومها دعمت الجماعة، ومعها القوي السلفية، ما تضمنه الإعلان من إجراء »الانتخابات البرلمانية أولاً« قفزًا علي مبدأ »الدستور أولاً« الذي انحازت له قوي الثورة، والقوي الليبرالية المختلفة والجماعة القبطية في مصر، وكانت محصلة الاستفتاء أن صوت ما يناهز الخمسة عشر مليونًا لصالح »الانتخابات أولاً« فيما لم يتجاوز عدد المقترعين لصالح »الدستور أولاً« الأربعة ملايين مقترع.

هذا الانحياز الإخواني في الاستفتاء قبل أربعة عشر شهرًا، تحول إلي »مأزق« في الأسابيع الأخيرة، بل وهدد بمعوقات تعترض عملية انتخاب الرئيس المقبل، بعد أن ثار جدل واسع في الساحة المصرية حول صلاحياته حال انتخابه، والكيفية التي سيجري انتخابه علي هديها، في ظل الفشل في إعداد دستور جديد للبلاد، يحدد أسس مرحلة ما بعد انتخاب الرئيس في الثلاثين من يونيو المقبل، ويحصنها.

وكانت أزمة عارمة قد شهدها المجتمع المصري إثر الجدل الذي احتدم حول تشكيل الجمعية التأسيسية، المنوط بها انتخاب لجنة المائة الموكل إليها إعداد الدستور الجديد، ففيما كانت المادة 60 من الإعلان الدستوري تحصر دور البرلمان المصري، بغرفتيه »الشعب والشوري« في انتخاب »لجنة المائة« من خارج البرلمان، رأت الأغلبية التي يمثلها »الإخوان والسلفيون« أن تتقاسم عدد أعضاء اللجنة، بنسبة 50 بالمائة من داخل البرلمان، والـ50 بالمائة الأخري من خارجه.

وعلي الرغم من المعارضة الشديدة لهذا التوجه من بعض القوي والأحزاب، داخل البرلمان، وخارجه، إلا أن الأغلبية تشددت في موقفها، مما دفع للطعن أمام القضاء الإداري في هذا التوجه، والذي أبطلته محكمة القضاء الإداري بحكم قاطع، أعاد العجلة السياسية للمربع رقم (١)، وأطلق العديد من عوامل القلق إزاء القدرة علي تشكيل الجمعية التأسيسية، مجددًا بعد الحكم ببطلانها، والأسس التي سترتكن إليها، ومدي قدرتها علي إعداد الدستور خلال الفترة المتبقية علي إجراء الانتخابات الرئاسية، أو نهاية المرحلة الانتقالية في مصر.

وبحسب تقديرات الفقهاء القانونيين، والخبراء السياسيين، فقد بات من المستحيل إعداد الدستور في الفترة المتبقية، وهو ما يعني أن البلاد مقبلة علي فترة بالغة الصعوبة، لأن سير الأمور علي هذا المنوال، دون تحديد صلاحيات الرئيس القادم، وفقًا للقواعد الدستورية المقررة، يعني أن الرئيس القادم، سوف يتحول، إذا ما تم انتخابه دون صلاحيات محددة إلي ديكتاتور، يمارس سلطاته دون قيود تحكمه، أو تحد من سلطاته.

هذه المخاطر التي تتكاثر في وقت تتسارع فيه الأحداث، هي التي حدت بالمجلس العسكري الذي يدير شئون البلاد منذ الحادي عشر من فبراير من العام الماضي، إلي الدعوة لاجتماعات استثنائية، مع عدد من فقهاء القانون، وخبراء السياسة، وعمداء كليات الحقوق في الجامعات المصرية في الأيام القليلة الماضية، حيث استهدفت الاجتماعات التي شارك فيها فقهاء كبار من أمثال د.أحمد كمال أبو المجد وإبراهيم درويش وثروت بدوي ويحيي الجمل البحث عن مخرج من دائرة الفراغ التي هوت إليها البلاد، وتهدد منصب رئىس الجمهورية في الصميم.

جاء تحرك المجلس العسكري، متوازيًا مع اجتماعات مكثفة عقدتها اللجنة التشريعية بمجلس الشعب برئاسة المستشار محمود الخضيري بهدف البحث عن معايير جديدة لاختيار لجنة وضع الدستور، فيما راحت مقترحات عدة تطرح نفسها للخروج من المأزق الراهن، وما بين استدعاء دستور 1971 وتعديل بعض نصوصه للحد من الصلاحيات التي كان يتمتع بها الرئىس السابق حسني مبارك، وبين الدعوة لإعلان دستوري مكمل لا يتجاوز العشرين مادة لمواجهة الوضع الراهن، يترقب الرأي العام المصري بقلق ما ستسفر عنه المجريات الراهنة، في وقت يحتدم فيه الجدل بين أصدقاء الأمس، فرقاء اليوم، حيث »كل يغني علي ليلاه«.

محمود بكري