لم تكن التهديدات الأخيرة التي أطلقها السيسي ضد المصريين في لحظة انفلات أعصاب هي الأولى ولن تكون الأخيرة، لكن خطورتها أنها تضع الجيش في مواجهة جديدة محتملة مع الشعب في القرى والحواري، وتنسف ما تبقى للمؤسسة العسكرية من احترام وإجلال في نفوس المصريين الذين فقد جزءا منهم هذا التقدير بالفعل نتيجة ما حاق بهم من هذه القوات خصوصا في مذبحة رابعة ومن قبلها الحرس الجمهوري حتى وإن كانت مجبرة ومأمورة!!

لقد هدد السيسي باستخدام الجيش في مواجهة التعدي على الأراضي الزراعية، وهذا التعدي هو من “روتينيات” المجتمع المصري  الذي تتعامل معه عادة أجهزة الحكم المحلي مدعومة من قوات الشرطة، لكن السيسي الذي يتعمد تغييب الحكم المحلي، ويرفض إجراء انتخابات جديدة له منذ انقلابه في 3يوليو 2013 حتى الآن، حريص في الوقت نفسه على إقحام القوات المسلحة في أزمات مع الشعب حتى لا يكون هو “المأزوم الوحيد”، وحتى يكرس ربط مصير قادة القوات المسلحة بمصيره، ولا يغيب عن باله بالتأكيد أن الوطن هو الذي سيدفع الثمن، فهذا لا يهمه، وقد أثبت على مدار السنوات السبع الماضية ذلك بتفريطه في جزيرتي تيران وصنافير رغم الحكم القضائي النهائي، وتفريطه في حقوق مصر في البحر المتوسط في ترسيم الحدود البحرية مع قبرص ثم اليونان، وتفريطه في مياه النيل، وهو يتعامل بمنطق أنا ومن بعدي الطوفان.

لم يكتف السيسي بتهديده باستخدام القوات المسلحة ضد المواطنين البسطاء، وهو إقرار منه بعجز الشرطة والمحليات، وإنما قرن ذلك بتهديد آخر وهو أنه مستعد لترك السلطة لمن يخرب مصر، وكأن مصر لم تخرب بعد!!، ويعلم الجميع أن هذا التلويح الأخير (ترك السلطة) لا يستهدف في حقيقته ترك السلطة وإنما توصيل رسالة لأنصاره والمنتفعين بحكمه أن غيابه عن السلطة لأي سبب سيمثل كارثة بالنسبة لهم، وهو ما يدفعهم للتمسك به وربما تسيير مظاهرات تطالبه بالبقاء وعدم التنحي استنساخا مملا لما حدث مع الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر بعد هزيمة يونيو 67.

كان الرد السريع على تلويح السيسي بترك السلطة هو استفتاء إلكتروني، جعل من الوسوم المطالبة برحيله في صدارة وسوم تويتر في مصر لعدة أيام، صحيح أن هذا الشكل من المعارضة الإلكترونية لا يغير واقعا، لكنه الحد المتاح للمصريين للتحرك فيه، والتعبير عن رأيهم من خلاله، فالسيسي أغلق الميادين ومنع التظاهر، ورفع كلفة التظاهر السلمي إلى حد الموت حتى مع من دعموا انقلابه كما حدث مع الناشطة اليسارية شيماء الصباغ، ولو كان جادا في معرفة رأي الشعب الحقيقي بعيدا عن مواقع التواصل فإن عليه فتح الميادين للتظاهر، أو المسارعة بإجراء استفتاء عام تحت رقابة دولية، ولو صوت المصريون لصالحه فإنه سيكتسب شرعية حقيقية يفتقدها الآن، لكنه يعرف النتيجة سلفا، ولا يجد نفسه مضطرا لفتح الميادين أو إجراء استفتاء عام خاصة مع امتلاكه لأسلحة الفتك الشاملة التي هدد باستخدامها لـ” إبادة” القرى المرتكبة لجريمة التعدي على الأراضي الزراعية، وهي الأسلحة التي استخدمها بالفعل لإبادة آلاف المصريين في الاعتصامات والمظاهرات السلمية من قبل وجعلهم عبرة لمن يعتبر.

وبينما يصعد السيسي من قمعه للشعب المصري متوعدا إياه باستخدام الجيش لعمليات الإبادة، وبينما يضرب خصومه الفعليين والمحتملين من كل اتجاه حيث قبض مؤخرا على رجل الأعمال صلاح دياب صاحب جريدة المصري اليوم وبعض الشركات التجارية والنفطية، ومن قبله على القائم بأعمال مرشد الإخوان الدكتور محمود عزت، وفتح ملفات قضية قديمة للفريق أحمد شفيق تتعلق بفساد في قطاع الطيران، وأصدر حكما بالحبس 15 عاما على الحقوقي البارز بهي الدين حسن، فإن مناهضيه ومعارضيه لا يزالون يعيشون أجواء الاستقطاب التي ظهرت عقب ثورة يناير واستفحلت عقب انقلاب الثالث من يوليو. ورغم أن سجون السيسي أصبحت تعج الآن بقيادات وكوادر كل القوى السياسية الوطنية من يسار ويمين وإسلاميين فإن من نجوا من الاعتقال منهم لا يزالون يعيشون حالة الاستقطاب، ويرفضون التعاون المشترك لإنقاذ مصر من هذا الكابوس، بل إننا نشاهد مع مرور الوقت ظهور معارك جديدة بين إعلاميين ونشطاء ينتمون لمعسكر واحد، وهي المعارك التي أصبحت تقدم وجبة ثرية لبرامج التوك شو في قنوات النظام، يدللون من خلالها على “هزالة” المعارضة التي يراهن عليها الشعب، وينتظر منها الخلاص.
لقد صدرت مؤخرا دعوة جديدة للدكتور أيمن نور لتوحيد القوى المصرية المناهضة للنظام في الخارج، ورغم أن توحد هذه الكيانات لن يحدث تغييرا سريعا في المشهد السياسي، إلا أنه (حال حدوثه) سيمثل رسالة إيجابية للشارع المصري وخاصة للمعتقلين والمطاردين وأسرهم، بدلا من الرسائل السلبية “للخناقات” والملاسنات بين بعض الرموز الإعلامية والسياسية المناهضة لنظام السيسي، ولن تكون هذه المظلة التنسيقية هي غاية المراد، ولكن ينبغي أن تكون خطوة في طريق توحيد حقيقي لكل القوى الرافضة للنظام من كل الاتجاهات، فهذا هو الطريق الصحيح لإنقاذ البلاد والعباد، وفي تجربة المعارضة التشيلية لنظام بينوشيه، والمعارضة الجنوب أفريقية لنظام الفصل العنصري، والمعارضة الإيرانية لنظام الشاه رضا بهلوي الأسوة الحسنة، فقد ظلت هذه القوى في النماذج الثلاث مشتتة لسنوات طوال، بأسها بينها شديد، حتى توحدت على هدف بسيط لإنقاذ بلادها، وكان لها ما أرادت، فهل يفعلها نظراؤهم المصريون؟!!

د/أمال بوسعادة العلمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *