1- في تأثيرات الفكر الشيعي(*) على حركـة الشيعـة السياسيـة:
نتيجة الفشل المتلاحق للمشروع الشيعي السياسي – المذهبي في شتى مراحل التاريخ الإسلامي، اتَّخذ الشيعة وسيلتين لتأجيل العمل في سبيل تنفيذه، وهما:
– مبدأ التقية.
– مبدأ الانتظار، أي انتظار عودة المهدي المنتظر، وانتظاراً لظهوره لم تُجِز المبادئ الشيعية العمل في سبيل بناء تلك الدولة. بل حُرِّم العمل من أجل بنائها، لأنه لا يجوز أن يقود الدولة سوى إمام معصوم، وهذا الإمام هو محمد المهدي المنتظر، وفي حال ظهوره سوف يملأ الأرض عدلاً بعد أن مُلِئت جوراً.
أين تُؤثِّر هذه المبادئ على حركة الشيعة السياسية؟
كان لهذين المبدأين تأثيراً بالغاً، بل جذرياً، على حركة الشيعة السياسية. فأصبحا عائقاً بل رادعاً دينياً مقدَّساً ضد أن يعمل أي شيعي في تغيير الأنظمة السياسية. فما دام المهدي غائباً، ولا يعرف أحد متى يظهر، فمن الخطأ أن يغامر الشيعي في القيام بحركة سياسية تطيح بنظام قائم، لأن البديل، في ظل الغيبة، سوف يكون نظاماً ظالماً أيضاً. ولهذه الأسباب لم تُزجّ الطاقات الشيعية كاملة في أية ثورة ضد المظالم، ولا يُضعف من صحة هذا الاستنتاج أن يكون هناك عدد من الأمثلة التاريخية التي تدل على اشتراك العديد من فقهاء الشيعة وعلماؤهم في كثير من الثورات المطلبية، التي تطال تحسين الأوضاع الاجتماعية للفقراء من الشيعة، أو الانخراط في معارك الاستقلال السياسي للبلدان الإسلامية.
كان هذا النقص من الإيذاء واللاواقعية إلى درجة أن تجاوزه بعض الشيعة عندما انخرطوا في صفوف الحركات الحزبية الليبرالية، وراحوا يناضلون، جنباً إلى جنب، مع شتى شرائح المجتمع الذي يعيشون فيه، وهم يرفعون شتى يافطات التغيير، ومنها تغيير الأنظمة السياسية الظالمة من دون أن تحدَّ من حركتهم نظرية الانتظار الشيعية التقليدية.
ولهذا جاءت حركة الصدر، المنفتحة على غير الأفكار الشيعية التقليدية، لكي تتصدَّى لها من دون الاصطدام معها، بل عملت –حسب اجتهادات الصدر نفسه- على هدي تلك التعاليم والعقائد. وهي بهذا فتحت ثغرة في دائرة الفكر السياسي المغلق للشيعة. وبمثل هذه الخطوة كسبت الحركة الشيعية، عندما شدَّت إليها قطاعاً واسعاً من الشيعة الذين كانوا طامحين لأن يحتلوا موقعاً في القيادة السياسية. وكان منهم: من يطمح لأن يلعب دوراً سياسياً من دون أن تكون في وجهه أية عوائق عقائدية مذهبية تعيق تلك الطموحات. وكان من أهم ما يخشون منه أن تكون العوائق العقائدية مبنيَّةً على أساس نصوص مقدَّسة. هذه النصوص تمنعهم، فعلاً، من أن يلعبوا دورهم السياسي الذي يطال، فيما يطال، تغيير الأنظمة السياسية الظالمة من دون خوف من إبراز نظرية الانتظار في وجههم.
وجاءت الخمينية بنظرية ولاية الفقيه، لكي تضع الفكر الشيعي على مفترق جديد. فهي قد تميَّزت عن أصلها، كما جاءت في العهد الصفوي*، بأنها لم تأت تلبية لحاجة سياسية، أي تأمين غطاء سياسي لحاكم سياسي، بل جاءت لتؤكد على أن يكون الفقيه هو الحاكم الديني والسياسي معاً. وهي عندما شرَّعت مسألتين: الخروج من إشكالية الانتظار إلى أبد الآبدين، وإلى تشريع أن يحكم دولة إسلامية غير المهدي المنتظر، أي نائبه من الفقهاء العدول، فإنما فتحت الأبواب على مصراعيها أمام الشيعة لكي ينتقلوا من الجدل حول شرعية الجهة التي يجوز لها أن تحكم المسلمين إلى البحث عن مضمون النظام الذي يؤمن لهم العدالة والمساواة. وهذا الاحتمال لم يطل انتظاره، فبرز إلى الواجهة العملية، من خلال أنموذجين: أحدهما عملي خضع للتطبيق تحت شعار حكم الفقيه في إيران، والآخر نظري، كما جاء في عقائد حزب الله في لبنان واتجاهاته السياسية:
– ففي إيران، ومن خلال الصراع بين المتشددين والإصلاحيين، انتقلت نظرية ولاية الفقيه من ضوابطها التي وضعتها النظرية الخمينية إلى رحاب أوسع، عندما دعت الخاتمية(**)، وهي من المدرسة الخمينية، إلى أخذ مصلحة الأمة في المقام الأول. ولهذا كانت الخاتمية جريئة عندما أعطت الشرعية لأي نظام آخر، وإن كان نظاماً غير إسلامي، على شرط تشريع مبدأ الحرية في إبداء الرأي من دون خوف.
– أما مظاهر التغيير في اتجاهات الحركة السياسية الشيعية عند حزب الله في لبنان، فقد انتقلت من تكفير النظام اللبناني القائم لعدم شرعيته الإسلامية إلى تشريع التعاون معه، والعمل من ضمن مؤسساته.
ويأتي من داخل المتغيرات في الفكر الشيعي تيارات فكرية تدعم، في بعض اتجاهاتها، التيارات السياسية المُختَزَلة حتى الآن بتيارين رئيسين: حركة أمل وحزب الله من جهة، وكي تتعارض معهما في بعض اتجاهاتهما الأخرى من جهة أخرى. ومن أهم بعض تلك الظواهر، والتي تشكِّل تياراً ثالثاً، يشق طريقه ويفعل ويتفاعل بغيره ومع الآخر. إن هذا التيار، وإن لم يكن بحجم العمل المنظَّم؛ بل يشكِّل، بوجوده واستمراره، حاجة وضرورة في سبيل إبقاء احتمالات التغيير في الاتجاهات الفكرية والسياسية للشيعة من خلال حالة حوارية متواصلة، قد لا تؤمِّنها التيارات السياسية القائمة لأنها تغرق، في أحيان كثيرة، إما بهدف الدفاع عن مصالح شرائحها السياسية، وإما بهدف الدفاع عن إيديولوجيتها التي تميِّزها داخل الطائفة الشيعية. وإن الخروج عن تلك الإيديولوجية يُضعِف تأثيراتها في البيئة المذهبية أو الدينية التي تُبرِّر لها وجودها وتضمن استمرارها. ولهذا نرى من المفيد أن نحدد، ولو بإطلالة سريعة، أهم ما تتميَّز به تلك الظواهر – التيارات الفكرية في داخل الشيعة:
ونعطي، هنا، مثالاً محمد حسين فضل الله: فهو لم يكن جزءاً من أي تنظيم، لكنه يحاور الجميع، يلتقي معهم فيما يتَّفقون عليه، ويعملون على دراسة ما يختلفون حوله «بشكل لا يُسيء إلى القضية». وهو كما يقول كان يعمل «من أجل الإسلام أينما كان من دون أن أكون جزءاً منه»([1]).
ويعمل فضل الله على تمييز نفسه بعدة مسائل، ومن أهمها: إن المذهب الشيعي كان يروِّض مناصريه على الحرمان الدنيوي، وكان فقهاء الشيعة قد عملوا على تطوير هذا الترويض وغرسه في الروح الشيعية بتقليد (الندب)([2]). وعلى العكس منهم يمجِّد فضل الله القوة والسلطة»([3]). ويُقدِّم أسانيد دينية وفكرية في هجومه على الأفكار التقليدية لفقهاء الشيعة، وفي دفاعه عن الدعوة إلى استخدام القوة، وكذلك عن واجب رجال الدين أن يتدخلوا في السياسة ([4]).
وعن المهدية، أي نظرية الانتظار، يتساءل فضل الله: هل يجب على الناس أن يتخلوا عن عالم السياسة؟ وهل على الشيعة أن يستبعدوا قيام دولة عادلة في غياب الإمام؟ ويجيب بأن المجتمع بحاجة إلى دولة، لكن «المسألة ليست وجود إمام معصوم، إنما حاجة المجتمع المتأصلة إلى نظام حكم لإنقاذ الناس من الإرباك والفوضى»([5]).
وعن إقامة دولة إسلامية في لبنان، يقول: إن المناخات الموضوعية في لبنان ليست متوفرة للإسلام لأن يحكم فيه، ويصف الدعوات التي ترى أن الأمر هو واجب ديني، بأنها «قفزات في الفراغ»([6]).

2- الأسباب والعوامل التي مهَّدت الطريق من أمام نجاح الحركات ذات الأهداف الطائفية السياسية عند شيعة لبنان:
لماذا استطاعت حركة أمل أن تشدَّ الشيعة إليها؟ ولماذا أخذ الشيعة، منذ تأسيس حركة أمل، يعدُّونها ممثلة لهم أكثر من الأحزاب اليسارية والتنظيمات الأخرى؟
نفتقد إلى إحصائيات دقيقة حول مستوى الوعي الثقافي والسياسي للمنتسبين إلى حركة أمل. ولكن الأرجح أن غالبيتهم العظمى كانت أمية. لكن هؤلاء، كانوا ينشدَّون إلى الحركة لأنها كانت، بالنسبة لهم، بمثابة رمز مذهبي يوفِّر لهم قوة الحماية المعنوية في ظل جوٍّ كانت فيه المذاهب الأخرى تمتلك ما يوفِّر لها تلك الحماية. وقد ازداد تعلقهم بحركة أمل وانشدادهم إليها بعد أن أصبحت تمتلك قدرات سياسية وعسكرية وتنظيمية توحي بالثقة لهم، وهذا يعني منع ابتزازهم من أية قوة أخرى. ومن خلالها أخذوا يحلمون بأن مصلحة الشيعة التي كانت مسروقة من قبل الآخرين لا بُدَّ من أن تعود إليهم بفضل القوة التي وفَّرتها لهم الحركة، والكفيلة بتشكيل عوامل الضغط على من سلبها منهم.
لم تكن حركة أمل حزباً وفق ما هو متعارَفٌ عليه، بل كانت حركة سياسية – عسكرية تضم إليها أعضاء يمكن تحريضهم واستثارتهم ودفعهم أكثر مما يمكن توجيههم([7]).
لكن حركة أمل نشأت، منذ البداية، كحركة احتجاج ذات طابع إصلاحي. فهي حركة شيعية واعية لذاتها، تحسب الالتزام بالتراث الشيعي أحد مبادئها المقرَّرة، ولكنها لا تدعو إلى إقامة دولة إسلامية أو شيعية في لبنان، وهي تعترف بلبنان بلداً يمتاز تاريخياً بالتسامح الديني.
لكن، على الرغم من أن حركة أمل كانت شيعية في منطلقاتها، وكانت تمثل السقف الذي يتظلل تحته شيعة لبنان، ما هي العوامل التي دفعت بهم إلى التحول إلى صفوف حزب الله؟
لقد لاقى التوجه الإيراني استقطاباً عاطفياً في صفوف شيعة لبنان، وكان هذا مترافقاً مع استمرار سيادة مناخ اليأس. وهذا ما دفع بالعديد منهم إلى البحث لدى التشيع المتطرف عن أجوبة وحلول عجز اعتدال حركة أمل عن توفيرها([8]).
هل استقر الوضع الشيعي عند حدود لن تتغير معالمها في المستقبل؟ وهل انقسامهم إلى تيارات، كما هو حاصل الآن، سيبقى من الثوابت التي لن تتغير؟
لم يستطع الشيعة حتى الآن أن يتفقوا، فوجود تيارات مختلفة ومتناقضة لا يقود إلى الاستنتاج أن مراكب الشيعة في لبنان قد رست إلى شاطئ أمين. ولأنهم لا يزالون منقسمين، فهم لم يتفقوا، إذاً، على هوية تجمعهم. فبأي اتجاه سوف يواصل الشيعة طريقهم للوصول إلى هوية واحدة، يتوحَّدون بها وتستطيع هي أن توحَّدهم؟
إننا نرى أن نحدد العوامل والظروف التي كان فيها الشيعة يقفون على هامش الحركة السياسية من جهة، وثم تحديد العوامل والظروف التي دفعت بهم إلى الواجهة، وأحياناً إلى الصف الأول بامتياز من جهة أخرى.
أما كيف تخطى الشيعة موقع الهامشية السياسية؟
للوصول إلى ما يمكن أن يوضح هذا الأمر، كان لا بُدَّ من أن نوجِّه الاهتمام إلى وحدات التغيير التالية: التعرف على مناحي الحياة الحديثة (الإعلام – السلع الاستهلاكية – التكنولوجيا وغيرها)، تغيير السكن وخصوصاً الهجرة من الريف إلى المدينة. تغيُّر العمل، كالتحول عن العمل الزراعي. إنخفاض نسبة الأمية. تغيُّر نسبة الدخل([9]). الاختلاط السكاني بين التعدديات الحضارية والطائفية. اكتساب الاتجاهات الثقافية الجديدة. وضوح الأهداف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، نظرياً، والانخراط، فعلياً، في النضال من أجلها.
فكانت من أهم العوامل والظروف التي أثَّرت في حرمانهم واضطهادهم التاريخي:
العوامل الفكرية: إضطهاد مزمن تعود جذوره إلى تاريخ مبايعة عليٌّ بن أبي طالب بالخلافة، وما جرَّته من فتن وحروب شديدة أوقعت مئات ألوف الضحايا من المسلمين. مروراً بسلسلة المحن التي تعرَّض لها أولاده وأحفاده من قبل الأمويين والعباسيين، ولم تقم لهم قائمة حتى اضطرهم الأمر إلى إخفاء آخر أئمتهم، محمد المهدي المنتظر. ومنذ ذلك الحين، لم يمر على الشيعة ظرف واحد أمَّن لهم الطمأنينة. فإذا اطمأن بال بعض فرقهم عندما استولوا على الحكم في ظروف متباعدة ولفترات قصيرة إذا ما قيست بعمر الإسلام الطويل، إلاَّ أن هدوء البال والاطمئنان لم يطل شتى الفرق الشيعية لأنها كانت، أيضاً، متناحرة بين بعضها البعض.
أسَّس الشيعة لأنفسهم نظرية الانتظار، فامتنعوا عن المطالبة بأي حق لهم في الحكم. وطال الزمن، ولم يتحقق حلم الظهور. فملَّ بعضهم الانتظار. فكانت نظرية ولاية الفقيه، التي تعود بأصولها إلى العهد الصفوي، فأجازت شرعية قيام نائب للإمام الغائب، فحكم الصفويون باسم الشيعة تحت ظل تلك الإجازة. وتراجعت نظرية ولاية الفقيه بانتهاء حكم الصفويين. وانتظر الشيعة قروناً أخرى، حتى ملَّ بعض فقهاء الشيعة الانتظار مرة أخرى، وكان من أبرزهم الخميني، رجل الدين الإيراني الذي فجَّر تحت قيادة نظريته أكبر ثورة إسلامية على الإطلاق في العصر الحديث وأسس جمهورية إسلامية تتبنى قيادة الفقيه العادل.
كانت حركة التغيير في البنى السياسية والدينية قد بدأت في لبنان، على أساس منحى ليبرالي قاده رجل دين شيعي معاصر، يمتلك ثقافة دينية مطعمَّة بالنظريات الليبرالية الحديثة. وتزامنت مرحلة قيادته مع وجود متغيرات على صعيد طرائق الحكم في لبنان، بالإضافة إلى متغيرات أخرى تتوافق مع مسايرة روح العصر: بأفكاره الوافدة من الغرب، والحضارة الجديدة التي أمنت للشيعة وسائل طلب العلم والمال فأنتجت نخباً حديثة بطرائق تفكيرها وطموحاتها واتجاهاتها السياسية والاجتماعية التي كانت تنتظر الظرف المناسب للانقضاض على الاتجاهات التقليدية في الفكر والسياسية تطال بطريقها النخب السياسية والدينية القديمة والتي كانت تحملها وزر التخلف والاضطهاد الذي كان يلاحق الشيعة منذ وجودهم في لبنان.
يأتي النهج الفكري الليبرالي لقيادة الشيعة في لبنان، منذ الخمسينات، مع النهج الديني المتمثل بنظرية ولاية الفقيه، لكي يجمعهما متغير واحد ومشترك، وهو الانقلاب على النظرية الفكرية التقليدية للشيعة، وهو تجويزهم للخروج من عصور التقية، وتشريعهم حركة الشيعة السياسية في عصر انتظار المهدي.

3- لم تحصل النهضـة الشيعيـة المعـاصرة من دون موجـة الصراعات الداخليـة:
بدأ الصراع، قبل الستينات، بين الزعامتين الشيعيتين السياسية والدينية، فكانت الغَلَبة فيه للزعامة السياسية. واستمر، بعد الستينات، بعد وصول موسى الصدر إلى لبنان. والسبب في ذلك أنه كانت له شخصيته المميَّزة، فشدَّ إليه انتباه النخبة الشيعية المثقفة ومعظم النخب الشيعية الاجتماعية، فصنع الصدر موقعاً جديداً لرجل الدين الشيعي. وفي عهده بدأت مرحلة التوازن، بين السياسيين ورجال الدين الشيعة، تسير بخطى ثابتة. خاصة بعد أن أسبغ الصدر، بفرادته، خطاباً سياسياً يتمثّل فيه المصاعب والحرمان الشيعي المزمن. ولم يقف الأمر عند هذه الحدود، ولأن السلطات اللبنانية التي كان يؤرقها ابتزاز السياسيين الشيعة ساعدت في العهد الشهابي موسى الصدر على بناء مؤسسات مذهبية، كان الشيعة يحسبون أنها طريق سليم يؤمن لهم وحدة الموقف والصوت الذي يسهم في رفع الغبن التاريخي عن كواهلهم.
أما بعد غياب الصدر منذ العام 1978م، فقد توزَّع الشيعة إرث الصدر في مؤسساته التي أنشأها، فانفصلوا إلى تيارين متنافسين، وهما: تيار المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، ويمثلّه عدد كبير من رجال الدين الشيعة. والتيار السياسي الذي استمر في النشاط من خلال مؤسسة الصدر السياسية، والتي تمثلها حركة أمل.
فاتّخذ الصراع الشيعي – الشيعي، منذ تلك اللحظة، وجهتين: وجهة التسييس الطائفي، أي استخدام الطائفة في خدمة المصالح السياسية. ووجهة التطييف السياسي، أي وضع السياسة في خدمة مصالح رجال الدين.
أما بعد انتصار ثورة رجال الدين الشيعة في إيران، منذ العام 1979م، فبدأت الصراعات الشيعية – الشيعية في لبنان تتخذ اتجاهات متعارضة. ولهذا أخذنا نشهد إقبالاً واسعاً من القاعدة الشيعية على الانتماء إلى التيار الشيعي الإيراني، بسبب الانبهار الذي زرعه انتصار الزعيم الديني على أعتى قوة وهي سلطة الشاه.
منذ تلك اللحظة، اتسعت دائرة التشرذم في داخل الصف الشيعي، وأصبحت الصورة، كما يلي:
– تيار التطييف السياسي(*)، والذي يمثله المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، الذي اطمأن إلى شرعيته المستمدة من تراث موسى الصدر. والذي لا يرضى أن ينافسه أحد على قيادة الشيعة روحياً، وإن كان يرضى، مُكرَهاً، باقتسام الحصص السياسية مع قوى أخرى، ويأتي في طليعتها حركة أمل، مؤسسة الصدر السياسية، على أن لا تتعارض اتجاهاتها مع اتجاهات رجال الدين الشيعة الممسكين برأس المؤسسة المذهبية.
– تيار التسييس الطائفي(**)، والذي تمثّله حركة أمل، والذي يعد نفسه حزب الشيعة وجيشهم المدافع والمنافح عن كرامتهم ومصالحهم. وهنا تستثير حركة أمل انتباه الشيعة إلى أنها الوحيدة التي دفعت الشهداء بالمئات في سبيل رفع الظلم الفلسطيني عن كاهلهم، كما أنها رفعت عنهم ديكتاتورية الأحزاب اليسارية. وقد ارتفع شأن هذا التيار من خلال استقوائه بسوريا كقوة إقليمية فاعلة.
– وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، جاء من يزاحم التيارين بقوة وزخم شديديْن، يحملان معهما إلى الساحة الشيعية أفكاراً دينية وسياسية كانت تراهن على أنها البديل الإلهي لكل ما عداها من المشاريع الشيعية الأخرى التي عرفها الشيعة في لبنان. وتقوم هذه العوامل والأفكار على دعم مادي غير محدود للجماعات الشيعية التي تتجاوب مع أفكارها الجديدة. وكانت هذه الأفكار تقوم على أعمدة سياسية لا تعترف بغير سلطان الفقيه على الشأنين السياسي والديني. وارتفع شأن هذا التيار، أيضاً، من خلال استقوائه بقوتين إقليميتين –إيران وسوريا- مع أرجحية في الولاء المذهبي والسياسي للقوة الإيرانية.
– وبقي في الظل عدد لا يُستهان به من رجال الدين الشيعة المخضرمين الذين لم ينحازوا إلى هذا التيار أو ذاك، من التيارات التي نمى بعضها في أقل من جيلين، ونما بعضها الآخر في أقل من ثلاثة أجيال. وكلاهما كان يعمل بكل جهد لتخريج أعداد من رجال الدين بالقدر الذي يفي بغرض التبشير السياسي – المذهبي.

4- الاستناد إلى قوى من خارج القطر اللبناني يُدعِّم مواقع الشيعـة:
وجد عدد كبير من اللبنانيين أنفسهم سياسياً، وما عادوا يتقبَّلون أي نظام سياسي يتجاهل مطالبهم. فالجماعات التي لم تجد لمطالبها أذُناً صاغية في داخل النظام السياسي كانت، غالباً، ما تتجه نحو القوى الخارجية المستعِدَّة لمساعدتها([10]). ولهذه الأسباب اتجهت حركة أمل الشيعية إلى سوريا، واتجّهت فئة أخرى نحو إيران، فوجدت لديها الأذن الصاغية، وبنَت لنفسها تنظيماً سياسياً وعسكرياً، فكان “حزب الله”، هو تلك الذراع.
لماذا تلجأ جماعة للاستقواء بالخارج؟ أهو من غبنٍ لاحق بها، أو من خوفٍ على مصلحة من الاستيلاء عليها من قِبَل جماعة أخرى.
أم هو الخوف من الضغط على منعها من ممارسة حقوقها الدينية أو المذهبية –كحق انتماء إلى دين أو مذهب- هو ما يدفع بجماعة ما للاستقواء بالخارج المتجانس معها دينياً أو مذهبياً أو اقتصادياً؟
في هذا العصر وُضِعت حدود جغرافية للأوطان أو القوميات، بحيث أصبحت شتى الجماعات الإثنية مُلْزَمَةً –بقوة القانون أو بقوة الانتماء إلى وطن- بالانتماء لهذا الوطن وقوانينه، فهل يصبح من الجائز أن تستقوي تلك الجماعات أو أن تستند إلى جماعات من خارج وطنها وتكون متماثلة معها في دينها أو مذهبها وتسكن وطناً آخر؟
إذا تنازعت دولتان / وطنان / قوميتان مختلفتان لسبب من الأسباب، وكانت جماعة في كل من هاتين الدولتين / الوطنيْن / القوميتين تنتسب دينياً أو عرقياً أو فكرياً إلى مذهب الدولة الأخرى، فهل من الحرية في شيء أن تقف هذه الجماعة في صف المساندة للدولة الخصم؟ وإذا فعلت، فهل يجوز محاسبتها على موقفها، أم هل نعدُّ أن موقفها هو حق من حقوقها؟ وإذا جرت محاسبتها من قِبَل السلطات الحاكمة فهل تكون تلك السلطات قد تجاوزت حدود صلاحياتها؟ أو هل يكون تصرفها اعتداءً على حريات تلك الجماعة، أي انتقاصاً من حقوقها، أي اعتداءً على حقوق شرعة الإنسان؟
وإذا كان سلوك الجماعة يصب في تجاوز حدود الحرية المعترف بها، فعلى أية قواعد قانونية يمكن محاسبتها؟ فهل يجوز أن تُحاكَم على قواعد وقوانين مذهبها العرقي أو الديني أو الفكري، أم على قواعد وقوانين الدولة التي تنتسب إليها سياسياً وجغرافياً؟
إذن، كيف يمكن معالجة إشكالية استقواء الجماعات – الأقليات الوطنية / الفكرية / المذهبية / الدينية بجماعاتها المتجانسة معها من الخارج؟
هل يمكن أن تكون الأممية حلاًّ لتلك الجماعات – الأقليات؟
لو صحَّ هذا، سيصح، أيضاً، أن تكون الأممية حلاًّ توحيدياً. وستكون الأممية، بالتأكيد، دعوة صحيحة وحلاًّ مؤكَّداً لتوحيد شتى الانتماءات في داخل انتماء واحد تخضع له شتى الجماعات – الأقليات. ولو كانت الأممية على هذا المستوى لكان من الواقعي أن تنجح ولو مرَّة واحدة في التاريخ. أفليست كل الدعوات الدينية: السماوية منها أو الوضعية / الوثنية، دعوات أممية؟ فهل حقَّقت أية دعوة منها دولة الحلم الأممي؟
على صعيد الواقع الملموس، وليس على صعيد الحلم الذي يزرع الطمأنينة النظرية في النفوس، نرى أن أية دعوة تحمل حلماً أممياً لم تستطع، حتى الآن، أن تنجح في بناء وطنية صغيرة –أي أن توحِّد جماعة صغيرة على بقعة صغيرة من الأرض- وهي أيسر منالاً بكثير من بناء دولة أممية تضم إليها العالم كله أو جزءاً من هذا العالم!!!
من هنا يأتي جوابنا، كإسهام في ورشة فكرية مُفْتَرَضَة، على الشكل التالي:
لا شك في أن لكل جماعة – أقلية في وطن مصالح. ولهذا الوطن حدوده الجغرافية المرسومة وحدوده القانونية الموحَّدَة. ولهذه المصالح قواعد فكرية وسياسية، أو إيمانية دينية، أو دنيوية مادية.
فإذا كانت القوانين تعترف لكل الجماعات – الأقليات بحقوق متساوية. وإذا كانت السلطات السياسية تعمل بصدق على تطبيق تلك القوانين بعدالة ومساواة؛ أو تعمل على تعديل تلك القوانين إذا وجدت أنها لا تحقق تلك العدالة وتلك المساواة بين شرائح المجتمع على شتى انتماءاتهم الاجتماعية والفكرية والدينية… فهل هناك ما يضير من الخضوع لتلك القوانين؟
تأتي، هنا، صياغة قانون عادل ومُوَحَّد، ويأتي تطبيق هذا القانون بصدق وعدالة، حلاًّ منطقياً وسليماً. وساعتئذٍ تنزرع السكينة في نفوس الجماعات – الأقليات فتطمئن كلٌّ منها على مصالحها الخاصة.
وإذا هزَّ أي بشريٍ رأسه قائلاً: هذه طوباوية أخرى؛ فنقول: إنها أملٌ أقرب منالاً من طوباوية أممية لم يُثبت التاريخ أنها نجحت في محطة من محطاته الطويلة.

5- إذا كان الشيعة في لبنان قد سلكوا طريق الحصول على حقوقهم المهدورة المسار الطائفي السياسي، فهل يمكن أن نتوافق معهم على سلامة هذا المسار وصحته؟
صحيحٌ أن الشيعة لا يمكن أن يكونوا الطليعة التقدمية الرافضة بمفردها للنظام الطائفي السياسي، وأن لا يكونوا الشمعة المضيئة الوحيدة في ظلام هذا النظام، لكننا لن نتوافق معهم إذا ما أصروا على أن سلوكهم هذا هو الخيار الوحيد والأخير. فإذا كان انتزاع حقوقهم في مرحلة من المراحل قد اقتضى أن يحصِّلوها بمثل تلك الطريقة، فإن إصرارهم على استمرار خطئهم يُعَدُّ، من وجهة نظرنا، إصراراً لامنطقياً. وهو بالتالي تشريع للخطأ. فالواجب على كل الصادقين العاملين في سبيل لبنان وطني، كرابط موحِّدٍ لكل الطوائف والمذاهب على قاعدة تأمين حقوق الجميع بعدالة ومساواة، أن يُحذِّروا من أن سلوك هذا الطريق لن يُبقي حقوق أي طائفة مُصانَةً من كل المخاطر، لأن الاختلال في موازين القوى، لصالح هذه الطائفة أو تلك، لن تبقى بمنأى عن التغيير. فهي قد تتغير من مرحلة إلى أخرى في ظل اختلال موازين القوى، الداخلية والإقليمية والدولية، والتي سوف تقتضي اختلالاً بموازين القوى للطوائف اللبنانية. لأنه لن يتم تحصيل حقوقٍ أو تصحيح غبنٍ يلحق بهذه الطائفة أو تلك، إلاَّ من خلال الاتفاق الداخلي بين التعدديات الطائفية على قواعد ثابتة للعدالة والمساواة. ولن يكون «الاستناد إلى الخارج» عامل تطمين دائم وثابت، بل هو مرهون بمدى ارتباط مصالح الخارج مع مصالح الطوائف في لبنان. ونحن لو استقرأنا تاريخ علاقات الطوائف اللبنانية مع الخارج لتوصلنا إلى إثبات صحة هذا الاستنتاج، وهذا ما يُلزمنا أن نطرح، على الطائفة المارونية، التساؤل التالي: هل استطاع الغرب، بشكل عام، وفرنسا بشكل خاص أن يؤمنوا الحماية لهم في أثناء الحرب الأهلية في لبنان؟
ماذا كان يمكن للشيعة أن يفعلوا لو لم تتوفر لهم عوامل الإسناد الخارجي؟
إذا لم تتوفر لشيعة لبنان عوامل إسناد شيعية خارجية، فهل يتمكنون من إحراز ما حصلوا عليه بفعل الدعم السوري أولاً، وفعل الدعم الإيراني ثانياً؟
وماذا يفعل المسيحيون بشكل عام، والموارنة بشكل خاص، إذا تخلى الغرب عنهم؟ أَوَ لم يفعلها الأميركيون معهم طوال سنوات؟
أسئلة حادة مُوجَّهة إلى كل أطراف النظام الطائفي – السياسي في لبنان. لكننا نحذِّر من أن يكون الجواب تقليد للحل الذي جاء به ميثاق العام 1943م. وهو الذي ساوى فيه أصحاب الميثاق بين العمق العربي والعلاقة مع الغرب.
ولما كنا نميِّز بين عوامل الاستقواء الخارجية المرتبطة بمصلحة مؤقتة، وبين عوامل الاستقواء الوطني – القطري بعوامل الدعم القومي العربي المستندة إلى المصلحة القومية المشتركة، لكان علينا أن نضع العوامل الأولى في دائرة المتغيرات والثانية في دائرة الثوابت. فالأولى لها علاقة بالمنافع التكتيكية أما الثانية فلها علاقة بالمصير المشترك. وتأتي هذه المسألة لتثير السؤال اللاحق:

6- لماذا وقفت التيارات الشيعية في الخندق المناهض للفكرين الوطني والقومي؟
بل هل كان الشيعة وحدهم يقفون ضد هذا الفكر؟
لو استقرأنا مواقف الأحزاب والحركات اللبنانية التي تنطلق من مفاهيم طائفية أو طائفية – سياسية، سواء كانت الحركات إسلامية أم مسيحية، لوجدنا أن ما يجمعها ليس غير العداء للفكر اليساري الذي تعده من أهم أخصامها: فهو تارة فكر مستورد، وتارة أخرى فكر مخرِّب، وأحياناً فكر ملحد، وأحياناً أخرى وُجد لمحاربة الدين.
وكان زعماء الطوائف: سياسيين ودينيين، من السبّاقين إلى معاداة الفكر اليساري ومحاربته. فكان العداء للفكر اليساري هو الجامع الوحيد بين شتى الأديان والطوائف من جهة، وبين شتى الزعامات السياسية التقليدية من جهة أخرى. فماذا يعني كل هذا؟
يعمل الزعماء الدينيون على إعلان العداء من منطلقات المقارنة بين تفضيلهم التعاليم الإلهية وأوامرها على التعاليم الوضعية. ويعدون أن الصراع بين الفكرين: الديني / الإلهي كما يحسبون، والوضعي/ البشري، هو صراع وجود وليس صراع حدود.
ويعمل الزعماء السياسيون/ الزمنيون على إعلان العداء على قاعدة الدفاع عن المصالح. ولأن شعار العدالة بتوزيع الثروة هو عنوان رئيس في الأهداف الفكرية اليسارية، ففيه ما يتناقض تماماً مع مصالح أولئك الزعماء التي لن تتراكم وتنمو إلاَّ في ظل اللاعدالة، أي في ظل الاحتكار وضمان حرية الحركة لرساميلهم وأموالهم لكي تحصل ما تستطيع تحصيله من الأرباح، بغض النظر عن الوسيلة.
تعيش الأحزاب اليسارية، بأفكارها الليبرالية، بين مطرقة زعماء الدين وسندان زعماء السياسة والاقتصاد. فقد تتفق الزعامتان على تسوية ما بينهما، على قاعدة أن الثروة هي نعمة من الله يعطيها من يشاء، وما على الفقراء إلاَّ أن يقنعوا بالقسمة التي أصابوها من جهة، وأن يقنعوا بأن الله أنعم على الأغنياء بالثروات التي بين أيديهم، ولكن على شرط بأن يتصدَّق هؤلاء بقسم من أموالهم على الفقراء والمساكين من جهة أخرى.
لكن هل يمكن أن تنشأ علاقة سليمة، أي علاقة توفيقية بين الفكر اليساري من جهة، وكل من الفكرين: الديني، والسياسي الطبقي التقليدي من جهة أخرى؟
إننا غير واهمين بحصول المعجزة، ولهذا سوف يبقى الفكر اليساري «المتهم» الوحيد المطلوب رأسه حياً أو ميتاً من كل من الفكرين التقليديين، الديني والزمني.
لقد تبارى زعماء السياسة التقليديون مع زعماء المؤسسات السياسية الطائفية في داخل الطائفة الشيعية. فتضاءل نفوذ حماة النظام السياسي القديم، بل فَقَد بعضهم مواقعه بشكل كامل. وظهر جيل جديد من القيادات الذين لا ينتسبون إلى عائلات تقليدية. و لا بُدَّ من الإشارة أن الوضع في داخل الطائفتين المارونية والشيعية كان متشابهاً إلى حد كبير. لكن القيادات الجديدة، التي رفضت النمط السياسي القديم، لم تستطع إلاَّ أن تلتزم بحماية «هوية مجتمعها الطائفي»([11]).
من أهم الاتهامات التي تتوجَّه بها الحركات الطائفية – السياسية إلى الحركات والأحزاب اليسارية، ومنها الأحزاب التي تتبنَّى الإيديولوجيا القومية:
-فكرها العلماني الوضعي الذي يتعارض، بجزء كبير منه، مع التعاليم التي تعدها الحركات الطائفية ذات أصول إلهية.
-دعوتها إلى أن يكون للرباط القومي أو الوطني أولوية في العلاقات بين أبناء المجتمع الواحد، الذي يعيش على بقعة جغرافية واحدة، وهذا ما يتناقض مع ما تؤمن به الأديان باستنكار أن تحل رابطة أخرى بين أبناء المجتمع الواحد غير الرابطة الدينية.
ولأننا لن نغرق في الدفاع كثيراً عن أهمية الفكر العلماني، بأصوله الوضعية، لأن ما كُتِب عنه كان كثيراً. فإنه لا يمكننا إلا أن نُذكِّر ببعض المواقف الحادَّة التي قيلت في الردح فيه، باسم الدين والمذهبية، ولأنه قد تساوى في الموقف ضده كل التيارات الطائفية السياسية من إسلامية ومسيحية. ولأن بحثنا يأخذ الشيعة كمجال مخصَّص للبحث، فإننا ننقل نصاً حرفياً لما قيل في العلمانية: إن أي مجتمع يُقام على أساس غير أساس الإسلام، سيُواجَه بالفشل «هذه السُنَّة إلهية»([12]).والحل لن يكون على أيدي العلمانيين، لأنهم «كالإسرائيليين، والعلمانية تعني فصل الدين عن السياسة…»([13]). وإن ما جاء في هذا الأنموذج من الاتهامات يُغني عن متابعة الاستدلالات.
أما حول «الجريمة»، التي يرتكبها أصحاب الاتجاهات القومية والوطنية عندما يؤمنون بأن الرابطة الوطنية أو القومية هي الرابطة الوحيدة التي تشد أبناء المجتمع الواحد، فأقل ما يُقال في اتجاهاتهم إنهم مُعادون للإسلام. لأنهم يدعو إلى عصبية، والعصبية مكروهة في الإسلام!!
وهنا لا بُدَّ من أن نتساءل: هل العصبية هي معصية ارتكبها أصحاب الفكر الوطني أو القومي لوحدهم؟ بل هل فعلاً لا يمكن لأية دعوة قومية إلاَّ أن تكون مقترنة ومتلازمة مع العصبية؟ هل لا يوجد فكر ديني على مر العصور في التاريخ الذي وصل إلينا حتى الآن مُثقَلاً بالعصبية والتعصب؟
– حُكِم على سقراط بالموت، وجرَّعوه السُمَّ، لأنه آمن بآلهة غير تلك التي آمنت بها أمته. وهل كان غير التعصب الديني هو الذي أصدر الحكم؟
– جاء في الإنجيل نصاً يحكم بالموت على من يختار آلهة غير إله اليهود والمسيحيين: [1] إذا قام بينكم متنبئ أو رائي حلم…[2] …وقال لك تعال بنا إلى آلهة غريبة… فنعبدها[5] وذلك المتنبئ أو رائي الحلم يُقتَل…[6] وإن أغراك في الخفاء أخوك ابن أمك… [8] … لا تشفق عليه عينك … ولا تستر عليه [9] بل اقتله قتلاً… [10] ترجمه بالحجارة حتى يموت…([14]). وهل غير التعصُّب هو ما دعا التعاليم اليهودية والمسيحية كي تأمر بقتل من يدعو إلى آلهة أخرى غير إلههم؟
– جاء في السُـنَّة النبوية، عند المسلمين: «من غيّر دينه فاضربوا عنقه»([15]). وهل غير التعصُّب للإسلام هو ما دعا الرسول إلى الأمر بقتل من يرتدّ عن الإسلام؟
إن التعصب ليس سوى حالة نفسية – اجتماعية تساعد الجماعة على حماية نفسها، سواء كانت تلك الجماعة تنتسب إلى قوم واحد متجانس يقوم على النسب إلى جدٍّ واحد، أو كانت جماعة دينية، أو جماعة مذهبية …لكن هل من المستحيل أن يحل التوافق بين الجماعات المنغلقة بديلاً للتناحر؟
كانت العصبية القبلية عائقاً أمام انتشار الدعوة الإسلامية في مراحلها الأولى، فجاء الإسلام لكي يُحلَّ محلَّها العصبية للإسلام. فهل أصبحت العصبية –في مثل هذه الحالة- مفهوماً إيجابياً بعد أن كانت مفهوماً سلبياً؟
كان من أهم أغراض العصبية القبلية هي حماية القبيلة وأفرادها، ولم يكن هناك راية أشد تأثيراً على أبناء القبيلة الواحدة من مناشدتهم الدفاع عن أعراضهم وكرامتهم، وليس الوقوف في وجه غزو القبائل الأخرى سوى مظهر واضح من مظاهر تأثيرات العصبية، فهي كانت مظهراً إيجابياً. وجاء الإسلام بدعوة توحيدية سياسية للقبائل العربية عمل على إحلال العصبية للإسلام –كدعوة سياسية عملت على توحيد العرب- مكان العصبيات القبلية التي كان يتمزقها التناحر والغزو المتبادل. وكان الإسلام، خاصة في مراحله الأولى، لكي يشد أزره بحاجة أيضاً إلى عصبية إسلامية تجمع المسلمين من حولها. ولما كانت العصبيات القبلية مصدر إزعاج وعائقاً يحول، في أحيان كثيرة، دون أن يكون المسلمون بنياناً مرصوصاً في معارك الغزو ضد القبائل التي لم تنتسب إلى الإسلام، كان لا بُدَّ من التأكيد على سلبيتها من جهة وعلى إيجابية العصبية الإسلامية من جهة أخرى. بهذا المعنى، فإذا كانت الدعوة الإسلامية قد قضت على عصبية قبلية فهي قد أحلَّت مكانها عصبية إسلامية.
فالموقف من العصبية، هنا، ليس له علاقة بقبح أو حسن بذاتها، لكن الموقف منها تفضيل عصبية على أخرى. واستمر هذا المفهوم سائداً حتى الآن، وهو الذي دعا كثيرين من الفقهاء المسلمين، من شتى المذاهب، إلى رفض القومية بشكل عام، والقومية العربية بشكل خاص لأنها تُحِلُّ عصبية أخرى بديلاً للعصبية الإسلامية.
واستناداً إلى ذلك، علينا أن نرفض مظاهر العصبية أياً تكن مصادرها. سواء نُسِبت إلى إيديولوجية وضعية، أو نُسِبَت إلى إيديولوجية دينية أسبغ عليها أصحابها الصفات القدسية. والعصبية المرفوضة، هنا، هي عصبية الانغلاق والتي يعبِّر عنها قول أو ما جاء بمعناه: أن ترى شرار قومك خير من خيار قوم آخرين.
ولهذا يصبح من الضرورة بمكان أن ينظر كل الفقهاء المسلمين إلى المسألة القومية، وعلى رأسها القومية العربية، بمنظار عقلي، بحيث يتحول إلى موقف إيجابي. ويترتب على الإصرار على المواقف السلبية من المسألتين: الروابط القومية والوطنية نتائج خطيرة على بنيان المجتمعات الواحدة التي تتشكل من تعدديات دينية أو مذهبية دينية أو تعدديات حزبية أو فكرية، فما هي النتائج المترتبة؟
أدركت الحركات السياسية الشيعية في لبنان جزءاً من تلك المخاطر عندما تحوَّلت من خطابها المذهبي السياسي، الذي كان يستخدم أسلوب التكفير، خطوة إلى الأمام عندما جوَّزت استثناء لبنان من شمولها بهذا الخطاب. وراحت تُعدُّ نفسها كي تلعب دوراً سياسياً من داخل التركيبة السياسية اللبنانية كما هي قائمة. وبهذا دلَّت أنه لا علاقة للموقف من النظام اللبناني بالعقائد الدينية، لأنها عندما تنتقل من نقده وتكفيره على أساس نصٍّ ديني مُحكَم إلى إجازة العمل من داخله تكون بذلك قد ارتدَّت عن القول بقدسية النص. وبهذا نخلص إلى الاستنتاج أن النص، الذي كانت تتحصن وراءه تلك التيارات بحجة أنه نص مقدس، لم يعد كذلك. وهذا لا يعني أقل من أن قدسية النص هي مسألة سياسية دنيوية لا علاقة له بأي أمر إلهي. وهو، بمثل هذا الاستنتاج، يقترب من منابع وضعية أكثر مما يقترب من منابع إلهية.
أما ما لم تتخلص منه بعض الحركات السياسية الشيعية، فهناك العديد من المسائل التي يُسبغون عليها صفة القداسة والإيمان الديني المقدَّس، كمثل الإصرار على أن المقاومة الإسلامية تتميَّز بروحية تفوق ما عداها من وسائل وأساليب المقاومات الأخرى. وهم بذلك احتكروا العمل المقاوم في لبنان تحت حجة أن إسلاميته هي خير ضمان للحصول على نتائج نوعية وجذرية. فما هي الآثار السلبية التي تركها هذا الادِّعاء على مسيرة العمل السياسي العسكري في مقاومة العدو الصهيوني؟
من أهم نتائجه أنه قد جعل كل عمل مقاوم يأتي باسم اليسار غير مجد. وألغى دوراً كان يجب على المذاهب الإسلامية الأخرى أن تقوم به. وألغى دوراً كان يجب على المسيحيين أن يقوموا به أيضاً. وهو بهذا ألغى مشاركة قوى عديدة في مهمة من أهم المهام الوطنية وأقدسها على الإطلاق، وهل هناك أهم من أن يتشارك كل أبناء المجتمع الوطني في تحرير أرضهم؟ إن ذلك يعني، أن المنهجية المذهبية في احتكار العمل المقاوم، يخلق شرخاً بين أبناء المجتمع الوطني الواحد بين من قام بعبء التحرير وبين من مُنِع عن القيام بواجبه لأكثر من سبب.
لقد أغفلت محبة الكسب الفئوي إيجابيات العمل الجبهوي الوطني، وهو كان الأقدر على أن يصهر نفوس جميع اللبنانيين في أتون إسهام الجميع في حصد نتائج النصر. يتفاعل هذا الشعور على الرغم من أن الجميع قد أعطوا للنتائج التحريرية حق قدرها. ولكن هل أعطت تلك النتائج مكاسب سياسية متميِّزة للطرف الذي مارس منفرداً العمل المقاوم في المراحل الأخيرة؟
أغفل الخطاب السياسي الديني للمقاومة الإسلامية عوامل أخرى كان لها أثر كبير في إيصال نتائج المقاومة الإسلامية إلى ما وصلت إليه، ويأتي على رأسها ما يلي:
– عوامل الإسناد الإقليمي المستندة إلى العمق المذهبي الشيعي. وإن لم نتوقف عندها طويلاً لأنها تخدم الادِّعاء بالروحية المتميزة للمقاومة الإسلامية، فالداعم ينتسب إلى المذهب الإسلامي للمقاوم.
– عوامل الإسناد الوطنية، والتي تمثَّلت بشتى التسهيلات الرسمية والأمنية التي وضعتها السلطات اللبنانية في خدمة المقاومين. ولا يخفى أن السلطة الرسمية غير ذات لون واحد: دينياً ومذهبياً وسياسياً. وهي بدون شك من العوامل الرئيسة والأساسية فيما لو كانت غير متوفرة لوقع العمل المقاوم في أكثر من مأزق.
– عوامل الإسناد القومي، سواء كان الدعم رسمياً، ومن أهمه عامل الدعم السوري، إذ بدونه لما كان لعوامل الإسناد الإقليمي تأثيراتها الملموسة. وإذا كنا لن نتناسى التأييد الشعبي العربي العارم يصبح من الواضح أن العامل الديني لم يكن وحيداً عندما تصدَّى لمهمة تتطلب بلا شك جهود كل تلك العوامل الوطنية والقومية.
لم يبق ما تتميَّز به المقاومة الإسلامية بأكثر من استخدام شعارات في التعبئة مغايرة في المضمون الإيديولوجي لغيرها من التيارات التي كانت منخرطة في الصف المقاوم. لكن تلك الشعارات الأخرى، بإيديولوجيتها وخطابها الوطني أو القومي، لم تكن لتعطي نتائج تقل أهمية عن النتائج التي أعطتها المقاومة الإسلامية.
وكي لا تنساق التيارات السياسية الشيعية مع نتائج تبتعد بها عن الواقع، نقول: لم تكن شعارات المقاومة الإسلامية أكثر فعلاً في النفوس من الشعارات الوطنية والقومية. ولم يكن عملها ليصل إلى ما وصل إليه من نتائج لولا شتى مصادر وعوامل الدعم والإسناد التي وُضِعت في خدمتها: ويأتي على رأس تلك العوامل التي كان بعضها وطني وبعضها الآخر قومي. فاستناداً إلى هذه الحقائق نجزم، على الرغم من أنه لا يجوز استخدام مصطلحات الجزم والحتمية في الدراسات الموضوعية، بأنه من الخطأ الفادح أن تقع التيارات التي تحسب أن المقاومة لم تكن لتعطي النتائج ذاتها فيما لو لم تتحول إلى الأساليب الإسلامية وشعاراتها. ومن مصلحتها الموضوعية أن لا تقف في الخندق المناهض والمتناقض مع التيارات الوطنية والقومية.
يبقى، أخيراً، التساؤل الذي كان استهلالاً لهذه الدراسة: إلى أين يصل مستوى العلاقة بين الفكر الديني والسياسة؟ أي هل يستطيع الفكر الديني، بما يحمل من مقدَّسات، أن يلزم الجماعات الدينية بأن لا تخرج عن ذلك النص؟
إنا نرى، من خلال نتائج هذه الدراسة، أن جنوح زعماء المذهب السياسيين، وزعمائه الدينيين، يعملون على إخضاع النص الديني إلى الدرجة التي يبعدونه فيه عن قدسيته عندما يحاولون أن يقاربوا النص المقدس مع الواقع السياسي والاقتصادي المُعاش.
فإذا كان حراس المذاهب والأديان يحسبون أن النص الديني هو من الجوامع الوحيدة بين أبناء المذهب الواحد أو الدين الواحد، فإنهم يدفعون بنا إلى التساؤل: ولماذا يتقاتل أبناء الدين الواحد أو أبناء المذهب الواحد؟*
من هنا لا بُدَّ من العودة إلى ما قال به كثير من فقهاء الشيعة*، بأن الهدف الأساس من أي نظام سياسي هو خدمة مصالح الناس. فهل يبقى أمام الشيعة، وغيرهم من الطوائف والمذاهب الإسلامية والمسيحية إلاَّ أن يتَّجهوا، على قاعدة الناسخ والمنسوخ، ليس بدلالاتها الإلهية المقدَّسة، بل بدلالاتها التعددية التطويرية التغييرية، إلى إخضاع الشريعة لمصالح البشر؟
***

________________________________________
* إن الفكر الشيعي، الذي قمنا منذ البداية في البحث فيه، هو تحديداً فكر الشيعة الإثني عشرية دون غيره من الفكر الإسماعيلي أو الزيدي. فالفكران الأخيران لا يؤمنان بنظرية الانتظار.
* كان مفهوم ولاية الفقيه، في العهد الصفوي، يقوم على الفصل بين الولاية الدينية والولاية السياسية للفقيه. أما الخميني فقد أعطى للفقيه (الولي)، في عصر الغيبة كل ما يُعطى للإمام المعصوم، فهو يقول: «إذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عادل، فإنه يلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبي (ص) منهم. ووجب على الناس أن يسمعوا إليه ويطيعوه» [راجع، عماد، د. عبد الغني: حاكمية الله وسلطان الفقيه: دار الطليعة: بيروت: 1997: ط 1: ص 118]. أما الأصل الصفوي للنظرية، فيعود إلى القرن السادس الهجري / العاشر الميلادي، وقد كان السبب الذي خرجت من أجله هذه النظرية، هو أن الشاه اسماعيل، ومن بعده ابنه طهماسب، أسس دولة شيعية وكان يريد تأمين فتوى دينية تعترف له بشرعية دولته في عصر الغيبة. فوجد في الفقيه الشيعي الشيخ الكركي مبتغاه. أفتى الكركي بتشكيل مؤسسة دينية رسمية استناداً إلى ما عدَّه (فكرة الولاية العامة للفقيه)، وتقوم على أساس أن يكون الكركي، كفقيه، نائباً عاماً عن المهدي المنتظر، وباعتبار الشاه نائباً للفقيه [راجع، عماد، د. عبد الغني: م. ن: ص 95].
* * يقول خاتمي، رئيس جمهورية إيران، وهو من أصحاب الخميني، ما يلي: «لم يقل [الإسلام] بأنه من الممكن لنا إجراء حكم الله بأية طريقة وأي شكل وبأي ثمن كان… [فإذا لم يرد الناس حكومة دينية] وانتخبوا حكومة لا ضوابط إسلامية لها… فإن علينا احترام رأيهم… شريطة أن تُصان آنئذٍ حريتي في نقدها، وإعلان ذلك دونما خوف». [راجع: خاتمي، محمد: مطالعات في الدين والإسلام والعصر: دار الجديد: بيروت: 1998م: ط2: ص 104 و106].
([1]) ينطبق أسلوبه في بناء العلاقات مع التنظيمات الإسلامية، على كل من: حزب الله – رئاسة المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى – القاضي الجعفري الممتاز – حركة أمل – حركة التوحيد – الجماعة الإسلامية – حزب الدعوة خارج لبنان… [مجلة الشراع: تاريخ 16 / 6 / 1986: نقلاً عن توفيق المديني: م. س: ص 196].
([2]) عجمي، د. فؤاد: م. س: ص 300. والندب هو لطم الصدور على وقع شعارات مرتَّلة حزينة تستعيد بطولات الحسين بن علي بن أبي طالب، وتُذكِّر بمأساة استشهاده. ويمارس الشيعة هذا العُرف في كل سنة في ذكرى عاشوراء، ذكرى استشهاد الحسين المشهورة.
([3]) فضل الله، محمد حسين: الإسلام ومنطق القوة: الدار الإسلامية: بيروت: 1981: ط 2: ص 15 – 16.
([4]) م. ن: ص 15.
([5]) م. ن: ص 236 وما بعدها.
([6]) فضل الله، محمد حسين: الحركة الإسلامية: هموم وقضايا: دار الملاك: بيروت: 1993: ط 3: ص 259 – 265.
([7]) أ. ر. نورثون: م. س: ص 223 – 224.
([8]) أ. ر. نورثون: م. س: ص 128 – 129.
([9]) أ. ر. نورثون: م. س: ص 52.
* إخضاع السياسي لخدمة الطائفي.
* * إخضاع الطائفي لخدمة السياسي.
([10]) أ. ر. نورثون: م. س: ص 35.
([11]) أ. ر. نورثون: م. س: ص 37.
([12]) نصرالله ،حسن: في محاضرة له نشرتها مجلة العـهد (العدد55): بيروت: 1405هـ=1985م: ص10.
([13]) م . ن : ص 11.
([14]) الكتاب المقدَّس (العهد القديم): المطبعة الكاثوليكية: بيروت: د.ط: ص 322.
([15]) بن أنس، مالك: الموطــأ :د ار إحياء العلوم: بيروت: 1988: ط 1: ص 559.
* راجع كأمثلة، حول معارك المواجهة، ما صدر عن لقاء ضمَّ أربعة من قياديِّي الشيعة: الزمنيين والروحيين، في مجلة العهـد: العدد 64: 28 ذي الحجة 1405 هـ/ 1985م. راجع، أيضاً، مجلة العهـد: العدد 65: 5 محرم 1406هـ، حول معارك طرابلس. والعدد 67: 19 محرم 1406 هـ. سقط في تلك المعارك حوالي 550 قتيلاً، و1500 جريح، ونصف مليون مهجَّر.
* من أمثال محمد خاتمي، ومحمد حسين فضل الله، وأحمد شوقي الأمين، ومحمد حسن الأمين، وعبد الحميد الحر، ومحمد جواد مغنية…