بين الغذاء والسياسة: هل المغرب مستعد للعاصفة القادمة؟
شهد المغرب منذ شهر شتنبر الماضي موجة احتجاجية شبابية مفاجِئة قادها جيل “زد”، وهو جيل نشأ في عالم رقمي مفتوح، ولا يؤمن بأنماط الوساطة السياسية التقليدية. هذه الاحتجاجات لم تأتِ من فراغ، بل سبقتها تراكمات طويلة من الإحباط وفقدان الثقة في الخطاب الرسمي، وغياب قنوات حقيقية تمكن المواطنين من التأثير في القرار العمومي. وقد اعتمد المحتجون على منصات التواصل الاجتماعي للتعبئة وبناء سردية مضادة، ما أربك المؤسسات التقليدية التي لم تتوقع ولادة قيادة افتراضية لامركزية يصعب اختراقها أو السيطرة على خطابها بسهولة. ومع توسع موجات الاحتجاج، ظهرت اتهامات قوية من داخل الحركة تتعلق بمحاولات شراء بعض الوجوه المؤثرة لتهدئة الشارع، وهو ما أقر به أحد المتحدثين البارزين في حوار نشرته دنيا الفلالي، الأمر الذي أثار غضباً واسعاً وطرح أسئلة حول الالتفاف على المطالب الأصلية بدل الإصلاح الحقيقي.
الهدوء الذي تلا الأسابيع الأولى لا يمكن تفسيره على أنه نهاية الأزمة، بل إن كثيرين يرونه فترة ترقُّب مشحونة بالانتظار، في ظل استمرار ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة، وتراجع القدرة الشرائية لأغلب المواطنين. فالطبقات المتوسطة التي كانت تاريخياً صمّام أمان اجتماعي، تعيش وضعاً هشاً بسبب ارتفاع تكاليف الخدمات الأساسية، وخاصة التعليم الخاص والسكن والصحة. هذا الوضع خلق شعوراً جماعياً بأن الدولة تحوّلت إلى جهاز إداري بعيد عن نبض الناس، منشغلة بملفات استراتيجية لا يجد المواطن أثراً لها في حياته اليومية. بالتوازي، أثارت المتابعات القضائية المرتبطة بعدد من الأصوات الرقمية نقاشاً مجتمعياً حول الحدود القانونية لحرية التعبير، وحول الخيط الرفيع بين الحفاظ على الاستقرار وضمان الحق في الاحتجاج السلمي.
الأزمة لا تكمن فقط في الاقتصاد أو المعيشة، بل في الإحساس بانسداد الأفق السياسي. فالنخب الحزبية فقدت جزءاً كبيراً من مصداقيتها لدى الشباب، لأسباب تتعلق بتكرار الوجوه نفسها، وضعف برامجها، وافتقارها لخطاب جذّاب أو حلول واقعية. هذا الفراغ السياسي سمح لجيل كامل بالبحث عن أدوات بديلة لإسماع صوته، وخلق مسافة بين الدولة والمجتمع يصعب ردمها بخطابات أخلاقية أو شعارات عامة. ومع انحسار الثقة، تزايدت الشكوك بشأن وجود شبكات نفوذ تسيطر على مفاصل القرار خارج القنوات الدستورية، وهو ما رسخ الانطباع بوجود منظومتين: منظومة ظاهرة للعيان تخاطب المجتمع بوعود الإصلاح والتحديث، ومنظومة الدولة العميقة التي تتحكم في تدفق النفوذ والموارد وتوجه القرارات الحساسة من وراء الستار. هذا الشعور يضعف المشاركة السياسية ويدفع الناس نحو العزلة والرفض.
تأثير هذه المنظومة المزدوجة ينعكس أيضاً على الاقتصاد، إذ تهيمن على الاستثمارات الكبرى شركات محدودة، بينما يشتكي رواد الأعمال الشباب من صعوبات بيروقراطية وتعقيدات إدارية تُغلق أمامهم الأبواب. وفي الوقت ذاته، تتوسع الفوارق الاجتماعية نتيجة اختلال توزيع الثروة وغياب سياسات جبائية فعّالة. هذه العوامل تُشعر جيلاً كاملاً بأن الجهد لا يكافأ، وأن النجاح لا يرتبط بالكفاءة بقدر ما يرتبط بالعلاقات، مما يؤدي إلى هجرة العقول وهروب الاستثمارات الصغيرة إلى الخارج أو إلى الاقتصاد غير المُنظم.
أما التعليم والصحة، وهما العمود الفقري لأي مجتمع، فقد أصبحا مجالين يشتكي منهما الجميع. المدارس العمومية تعاني اكتظاظاً وضعفاً في الجودة، والمستشفيات تواجه نقصاً في التجهيزات والموارد البشرية. وعندما يصبح العلاج امتيازاً، والتعليم عبئاً مالياً، تتولد قناعة بأن العدالة الاجتماعية غائبة. ويعترف الخبراء بأن غياب الثقة في الخدمات العمومية هو أحد أكبر مصادر الاحتقان، لأنه يمسّ حياة الناس بشكل مباشر، ويضعف الشعور بالانتماء للدولة.
وفي خضم هذه الأحداث، أثار تصريح أحد البرلمانيين تحت قبّة البرلمان صدمة واسعة عندما كشف في مداخلته أن هناك من “يطحنو الورق مع الدقيق المدعوم”، في إشارة إلى ممارسات خطيرة تمسّ صحة المواطن وجودة المواد الغذائية الأساسية. هذا التصريح زاد من حدّة القلق الشعبي، وطرح أسئلة ثقيلة حول فعالية الرقابة، وشفافية سلاسل الإنتاج والإمداد، ومدى قدرة الأجهزة المختصة على حماية المستهلك من الغشّ الغذائي بكل أنواعه.
كما كشفت تحاليل مختبرية فرنسية حقائق مقلقة تتعلق بالسلامة الغذائية، حيث تم اكتشاف وجود مواد مصطّنة في بعض المنتجات، مثل جبنة “لفاش كيغي”، فيما نُفت المخاطر عن الطماطم المغربية بعد التحاليل. هذه النتائج أعادت النقاش حول جودة وسلامة المواد الغذائية في الأسواق المحلية، وأبرزت الحاجة الملحّة لتعزيز الرقابة الصارمة على الإنتاج الوطني.
رغم هذا المشهد المعقّد، لا تزال هناك فسحة أمل حقيقية إذا توفرت إرادة سياسية جريئة تقطع مع المنطق القديم. إصلاح منظومة العدالة وتجديد النخب وإطلاق رؤية اقتصادية شاملة تركز على الابتكار والتصنيع المحلي يمكن أن يعيد للمواطن الأمل في المستقبل. كما أن تعزيز الشفافية عبر رقمنة الخدمات الإدارية، ونشر معطيات الميزانيات والصفقات العمومية، يمكن أن يحدّ من الشبهات ويعيد بناء الثقة تدريجياً. بالإضافة إلى ذلك، فإن فتح قنوات الحوار مع الشباب ومنحهم دوراً فعلياً في صياغة السياسات – لا مجرد دور استشاري رمزي – يمكن أن يحوّل الاحتجاج من حالة غضب إلى طاقة إنتاجية.
صوت جيل “زد” لا يجب أن يُفهم على أنه تهديد للأمن، بل على أنه إنذار مبكر يكشف عن اختلالات مؤسسية يجب مواجهتها بأدوات الحكامة الجيدة. تجاهل هذا الصوت، واعتباره مجرد موجة عابرة، ينطوي على مخاطرة سياسية كبيرة، لأن الأجيال التي تشعر بأنها غير مرئية قد تستقيل من المشاركة السياسية تماماً. وغياب المشاركة يعني تآكل الشرعية تدريجياً.
إن المغرب يقف أمام مفترق طرق حاسم: إما أن يختار مسار إصلاحات عميقة تُعيد توزيع السلطة والفرص وتبني دولة قانون حقيقية، وإما أن يترك التناقضات تتراكم حتى تنفجر في لحظة غير متوقعة. التاريخ الحديث علّم أن الدول التي تُصلح نفسها من الداخل تحافظ على استقرارها لعقود، بينما الدول التي تؤجل العلاج تُفاقم جراحها، وتدفع أثماناً أكبر لاحقاً. إن جيل اليوم لا يطالب بامتيازات، بل بمستقبل يمكن العيش فيه بكرامة، وفرص لا تعتمد على الانتماء، ودولة تحاسب المسؤولين مهما علا منصبهم.
حبّاً في المغرب، ومن منطلق المواطنة الحرة، نطالب الملك محمد السادس ومستشاره فؤاد علي الهمة، ونعيد النداء إلى عبد اللطيف الحموشي وكل أجهزة الدولة — ظاهرةً وخفيةً — أن يتحدّوا ويباشروا إصلاح ما يمكن إصلاحه بسرعة وشفافية. الإصلاح الذاتي أفضل من الإصلاح تحت ضغط الشارع، والوقت الآن مناسب لإثبات أن المصلحة العليا للوطن فوق كل اعتبار.
د/أمال بوسعادة العلمي
