د. عبد السلام المريني و ذة. نوال المريني محاميان
الصورة كاريكاتورية و مأساوية في آن، سيدة تخرج من المحكمة في حالة هيجان تصيح بأعلى صوتها “هزّ يا وز .. هزّ يا وز..” ثم تتوجّه إلى الجمهور لتحثه على الصياح معها ” هزّ ياوز.. هزّ ياوز..” و تدخل في خُطبة شمطاء تهاجم فيها أحد المحامين بإسمه و أحد النقباء السابقين و كذا المحامين جميعا ..”كيف يمكن أن ينوب 80 محاميا ضد طفلة رضيعة؟”.. تلاحقُها كاميرا الجريدة الالكترونية التي تحمّست لقضية ليلى  و تتجوّل بين الوجوه المتطلعة إلى الخطيبة التي دخلت في هيستريا حقيقية و أخذت شيئا فشيئا تفقد قوة صوتها.. و الصحافية التي ترافق الشريط بصوتها تحثّها على الاستمرار و تركز على فكرة أن ثمانين محاميا بل مائة يتكثلون ضد رضيعة صغيرة و تستجدي بكل الوسائل تعاطف المشاهدين..
هذه فقط صورة صغيرة بسيطة مما شاهدناه في الأيام الأخيرة من سنة 2019، بعد حوادث شغلت الناس و لم تصل بنا إلى نهاية الفرجة.. المنزل بإنزكان الذي تخرج منه أصوات لحيوانات لا وجود لها و لا يعرفها أحد.. النار التي تشتعل في المنازل دون أن يُعرف مصدرها.. السيدة التي حملت لمدة تسع سنين.. الأئمة الذين يزنون في المساجد.. و غيرها، و ها هي قضية “ليلى بنت الشعب”، عثروا للقضية على إسم مثير، سهل في النطق، مدغدغ لأحاسيس المستهلكين للمادة الاعلامية، و خلقوا داخل القضية قضية، فمن قضية عادية لنزاع حول النسب تم تحويل الأمر إلى تجبُّر محام معروف و زملاؤه و القضاء و العالم أجمع على الرضيعة نور، من نزاع عادي بين ليلى و غريمها، و هما معا لهما الحق في اللجوء إلى القضاء للفصل بينهما، إلى قضية تستذرّ دموع الأمهات و تعاطف الفقراء و احتجاج الجمعيات.. تخرج ليلى في بعض الأشرطة خروج المنتصر، و تتحدى بقوة الجميع، و تستقوي بمحامين معينين، و دامعة باكية مستذرة للعطف مدعية الضعف و الهوان أمام تجبّر خصمها و زملاؤه في المهنة في أشرطة أخرى.
هكذا سمحت وسائل الاعلام الجديدة ليس فقط بتلقي الخبر، و لكن بصنع الخبر و بتداوله ومن تم بنشر الأكاذيب، و ارتكاب المظالم بادعاء مساندة الضعيف، مما يعدّ جعل صناعة الخبر و نشره و تذييعه متاحا للجميع  بشكل أفقي… بمعنى للمؤهل علما و تكوينا و لغير المؤهل.
و للأسف، فإن حماس بعض المحامين “لقضية ليلى” و وضع خبرتهم رهن إشارة مصلحة خاصة مجهوداتٌ لا تبحث عن تحقيق العدالة، و لكن تتجه إلى “ربح قضية”.. و تحويل مجال السجال القانوني من قاعات المحاكم إلى أرصفة الشوارع و الخروج بالمرافعات من الجلسات إلى لقطات إشهارية لترويج منتجاتهم القولية، من دائرة البرهنة إلى دائرة الحجاج، و هو أمر في حدّ ذاته إقرار بالفشل عن تحقيق الهدف بواسطة المؤسسة القضائية و اعتمادا على القوانين.
ما كشفت عنه “قضية ليلى” هو أن هذا الواقع أدى الى  توفر من لا يتوفر على الكفاءة، و لا التبصر الاخلاقي على أسلحة مدمّرة، يمكنها أن تدمّر الأفراد و الأسر و المطامح و الهيئات بل سائر المجتمع لغرض استرزاقي بحث، أقرب للتسوّل منه إلى التوسّل، يمارسه أشباه المناضلين، و الحقوقيين المزورين، و المسترزقين الباحثين عن لقمة العيش بأكل لحكم الناس نيئا دون خجل..
إذا نظرنا إلى النزاع بين أطرافه نجد أنه قضية بسيطة، علاقة مشكوك في طبيعتها حسب كل منها، تطوّرت إلى إنجاب بنت تقول أمها إنها من غريمها، خلاف قول الطرف الآخر. و زوجة شرعية تضررت من هذه العلاقة و دافعت بقوة على أسرتها.
 طيب، ولكن النزاع وصل إلى حالة توتر بعد نشر صور و فيديوات تتعلق بالحياة الخاصة، من المحتمل أن تكون عن طريق ليلى لممارسة الضغط على الطرف الآخر في النزاع، قصد إجباره على الإقرار بالنسب، بينما تنكرُ ذلك ليلى و تقول إن زوجة المعني بالأمر هي التي نشرت تلك الصور التي كانت مخزَّنة بهاتفها و أرسلتها إلى الزوجة بطلب من خصمها، و أن هذا الأخير هو و زوجته من قام بنشرها على العموم.
إلى هنا القضية عادية، و لكن تدخل أطراف خارجية عن هذه العلاقة متمثلةً في خصوم سياسيين و مهنيين للمعني بالأمر أدى الى عرقلة الحلول الحبية الممكنة و انتهى برفع الامر الى القضاء، بله إلى الشارع، هذا ما فهمناه مما نشر في الصحف، و كان مع ذلك من الممكن ألا يصل التوثر الى الدرجة التي بلغها لو أن الصراع لم يتحوّل الى تسوية خصومات و إلى حسابات سياسية و إديولوجية، و إلى تحويله إلى وسيلة لطرح قضايا عامة من قبيل النفاق السياسي و الديني المنسوب إلى تنظيمات ذات حساسية دينية، الذي يستعرّ متى اقتربت الانتخابات، تحت ضغط من بعض الجمعيات و بعض النشطاء سواء كانوا يعبرون عن آراء سياسية أم لا، و سواء أكان سعيُهم وراء الحصول لقمة العيش بترويج المنتوج الإعلامي أم بسبب اعتقادهم في قيم نبيلة، و تم إحراج شخصيات عامة لا دخل لها في العلاقة التي تجمع المتخاصمين، بعضُها يشغل مواقع سياسية أو رسمية أو مهنية.
و إذا اطلعنا على بعض المحاور التي طرحتها القضية نجدها متعددة، على المستوى الاديولوجي و السياسي ، على المستوى الحقوقي و القانوني، على المستوى المهني، و على المستوى النفسي و الاجتماعي.
فعلى المستوى الأول كان جانب مهمّ من النقاش الذي شغل الناس هو تركيز عدد من المتدخلين على قناعات المعني بالأمر الذي ينتمي سياسيا الى تيار محافظ تنظيما و انتمائيا، بينما يتبنى قضية ليلى محامون و جمعويون وصحافيون من الحساسيات المعادية  و إن كان لا يمكن تصنيفها على هذا المستوى، و أدى ذلك الى احتدام النقاش في إطار معركة متواصلة بين من  يتهم التيار المحافظ بممارسة نفاق اديولوجي و ديني و يتميز بازواجية الخطاب، و بين من يرى أن الأمر فيه تهديد للهوية و للدين و القيم، و هذا طرح مغلوط، لأنه من قبل “إسقاط الطائرات” الذي كان يمارسها الإعلام المغربي أيام الوزير البصري.
أما على المستوى الحقوقي فإن عددا من المحددات تم عرضها بشكل خاطيء، و تم تجاوز الواقع التشريعي الذي قد يناقض تصوّرنا الحالي لحقوق الانسان و يقتضي مراجعات بعد حوالي عقدين من صدور مدونة الأسرة، كما يقتضي مراجعات للقانون الجنائي، و لكن الصراخ و العويل و البكاء و السبّ و فضح الأسرار، أتلف جمال و حلاوة هذا النقاش الذي يجب أن يكون هادئا و بعيدا عن الشخصنة.
القضية تتوزع بين الحق في التصرف في الجسد، الحق في النسب، الحرية الشخصية، الحق في محاكمة عادلة، الحق في الصورة، حماية الحياة الخاصة، الحماية الجنائية للأسرة… و هذه القضايا لا حاجة للصراخ لمعالجتها، خاصة و أنه من المفروض أن القضاة الذي سيفصلون بين الخصوم لن يتأثروا لا بالعويل و لا بالتوسّل، و أنهم محاصرون بالنصوص التشريعية التي تعطي حلولا ليست بالمثالية، و لكن ضرورية في واقع المجتمع الذي شرّعتْ له حسب مستوى تطوّره و حسب خلفيته التاريخية.
و بهذا الصدد، فإن الاحتجاجات التي سمعناها و أخذ يردِّدُها الشارع، لا تتعلق بأي خرق للقانون، فالزوجة المتضررة رفعت شكاية ضد زوجها و شريكته المحتملة في شأن الخيانة الزوجية و هذا حق يكفله لها القانون، و النيابة العامة تلقّت تنازُلها لفائدة زوجها و تشبتها بالشكاية ضد الشريكة، و طبقّت على ضوء ذلك الحلّ القانوني الذي ينص عليه الفصلين 491 و 492 من القانون الجنائي بحفظ الشكاية في حق الزوج،   و متابعة الشريكة في حالة اعتقال وفقا لسلطة الملاءمة التي تتوفر عليها، و المحكمة منحتْ المتهمة السراح المؤقت و ذلك يدخل في إطار صلاحياتها بدون جدل، بل جميع الحقوقيين يطالبون بتوسيع دائرة المتابعة في حالة سراح و تضييق مجال الاعتقال إلى أقصى ما يمكن، و من جهة أخرى باشر قضاء الأسرة البحث في ادعاءات المدعية و أجرى بحثا و أذن بالاستماع لشهود الطرفين.. فأين هو خرق القانون؟ إن الشارع لا يمكن أن يحكم في النزاعات، و إنه ليس من حقه أن يمارس كل هذا الضغط على القضاء، و محاولة لشلّ المؤسسات، إنه إحراج لا سبب له، و لا مبرر.
لم نطلع على حجج الخصوم لإبداء رأي، و لكن حسب ما سمعناه في أشرطة صحافة اليوتوب، أن السيدة ليلى تدعي الزواج التام، و لا تدعي مجرد الخطبة، و يكون عليها أن تثبت الزواج وفق المادة 16 من المدونة.. ليس بدعوى إثبات نسب الوليدة، و لكن بدعوى ثبوت الزوجية التي لا يمكن أن ترفعها في الوقت الحالي لعدم فتح الأجل من طرف المشرع، و بالتالي فإن هوس المحتجين أمام المحاكم بتأجيل الدعوى العمومية إلى حين بتّ القضاء الأسري بغير موضوع.. فحتى لو توفرت إمكانية قانونية لإلحاق نسب الصبية، فإن ذلك لا يمنح السيدة ليلى مركزا يسقط عنها الدعوى العمومية.
كما أنه من جهة الدعوى الأسرية، كان من الأنسب أن ترتّب المحكمة على الادعاءات الصريحة للسيدة ليلى بأنها زوجة شرعية و ليست مجرد خطيبة، الآثار القانونية و أهمُّها قاعدة النسب للفراش، و الفراش هو الزواج الصحيح، في حين أنه لو اقتصرت على التصريح بأنها كانت مخطوبة و ليست زوجة لكان هناك سبب مقبول لتطبيق المادة 16 من المدونة.. و إن مسألة فتح الأجل تحول دون ذلك.. و نشير من جديد أن الفراش يثبت بما تثبت به الزوجية (153 مدونة الأسرة)، إذ النسب لحدّ الساعة في تعريف المدونة لحمة شرعية (م 150 مدونة) و ليس لحمة بيولوجية.
مؤدى هذا النقاش و المطالب التي تمخضت عنه أن يقبل طلب إثبات النسب للابن البيولوجي، ليس فقط في إطار العلاقات الرضائية و لكن، و بالخصوص في حالة ترتب الحمل عن الاغتصاب.. و للأسف فإن الجمعيات التي تحمّست لتبني قضية ليلى لم تثر ذلك بشكل واضح… ويعلم الزملاء المحامون ما يعانونه في هذه القضية الانسانية الحساسة..
للأسف الشديد، فإن مهنة المحاماة كانت من أكبر المتضررين في هذه القضية، و أن البذلة التي تعتبر عنوانا للنزاهة و المعرفة و الترفع تم التشهير بها و عرضُها على العموم في صورة لا يستسيغها تاريخها المجيد، و أن أشخاصا إمَّهات كالوا السب و القذف لرموزها و نقبائها و نسبوا إلى المنتسبين إليها أقبح الصفات، مع ثبوت جهلهم بحقيقتها و الدور الأساسي الذي تقوم به و حضورها في تاريخ التحرر و بناء الدمقراطية و الدفاع عن حقوق الانسان.. بل قام بعض المحامين بالمشاركة في هذا الفعل الذي يعدُّ جريمة وفق الفصل 265 من القانون الجنائي، في تصريحات قدموها للعموم بواسطة الصحافة الالكترونية.
و إذا كان هذا الفعل من حيث القانون الجنائي يعدّ جريمة فإنه من حيث قانون المحاماة و تقاليدها يعد مخالفة تأديبية تقتضي متابعة الفاعلين من المنتسبين إليها دون إخلال بدور النيابة العامة كجهة حمائية بخصوص الجريمة.. و ذكرنا من جديد بضرورة مأسسة “هيئة جامعة” على المستوى الوطني تكون مختصة للتنسيق بين النقابات  و تتوفر على اختصاصات تأديبية و رقابية.. مسألة قوة مجالس الهيئات و النقباء  و مبادرتهم بحماية المهنة و الذوذ عن المحامين في حدود الصفة التي يتوفرون عليها.. مسألة فقدان الاحترام للهيئات المنظمة ليس من طرف العموم فقط و لكن من طرف بعض المحامين لنقبائهم و زملائهم أيضا و على الخصوص.
هذا مع بروز أشخاص يمارسون الصحافة بدون أدنى كفاءة أخلاقية قبل الكفاءة المهنية، مما يفرض فتح قنوات للتنسيق مع الجهات المكلفة بحماية مهنة الصحافة و أخلاقياتها، و التنديد و التصدي لادعاء الجهلة  و المسترزقين الانتماء إليها، و العمل مع الفِرق البرلمانية لاقتراح قوانين لترميم النقص في التشريع.
 و لا شك في ظهور عجز عن التحكم في الأحداث رغم خطورتها من طرف النيابة العامة، و هي الجهة الحامية لحقوق الفرد و الجماعات، و المنافحة عن تحقيق التوازن بين الحقوق و الالتزامات.
و نريد في الأخير عن نعبر عن قناعتنا العميقة، بأنه لو كان لنا أن نقترح إسما “كسيدة للسنة” أو “امرأة السنة” لكانت الأستاذة فاطمة الزهراء الابراهيمي أحق النساء بها، إذ لم يفكر أحد في معاناة هذه الزوجة و أبنائها الصغار من هذه الضجة، و تحملها لما تعرضت له من أشكال العنف و الظلم و العدوان، بسبب قوتها في الدفاع عن أسرتها متمسكة في حدود قدرتها بالاعتدال في القول و إعمال الحجة و البرهان، و بالمناسبة فإننا لا نعرف هذه الأستاذة الفاضلة و لا علاقة لنا بها، و أن إعجابنا بها ناتج عما اطلعنا عليه من منشورات على وسائط الاتصال الاجتماعي.
و الذي يبقى عالقا بالذهن، هو صورة ذلك المحامي و هو تائه يهرول في الشارع العمومي وراء السيدة ليلى بعد إطلاق سراحها، و قد فتح أزرار بذلته و تحوّل من رجل دفاع عن مراكز قانونية عن الموكل إلى رجل دفاع بدني يدفع المتجمهرين، ويزيح الصحفيين من طريق ليلى و قد انفعل حد البكاء.
البكاء.. نعم.. و لكن عما بلغت إليه المهنة جراء تصرفاته..
المحرر..  نبذة مختصرة :
الدكتور عبد السلام المريني، أحد قيدومي المحامين، و حقوقي في زمن قلت فيه الحقوق.. كان ضمن المجلس الوطني لحقوق الإنسان المؤسسة الدستورية التي تم إنشاؤها بداية سنة الألفين… له تجارب عديدة في الدفاع عن حقوق الإنسان، مارس الصحافة وكان ضمن أقضاب اليسار المغربي في الثمانييات والتسعينيات..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *